محاولة لفهم سلوك الباطنيّة في الماضي والحاضر

نشر بتاريخ: الأحد، 02 نيسان/أبريل 2017 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

 فشل علاج أمراضنا السياسيّة والاجتماعيّة في عالمنا العربي الموبوء بالعنف والتطرّف، لا لأنّ تشخيص الداء كان خاطئاً، ولكن لأنّنا لم نتجرأ على البوح باسم المرض بصراحة، خشية أن نتهم بالتعصّب، وكنّا نعطي المريض الدواء الخاطئ خشية أن نتهم بمعرفة الحقيقة، ولم نجرؤ على مصارحة المريض بدائه حرصاً على مشاعره، حتى استفحل المرض وطما الخطب، وكاد المريض أن يموت بدائه.
دعونا نقلّب صفحات التاريخ، ونستلهم العبر من دروسه، ونتزوّد من ذاكرة الأمّة، ومخزون تراثها الثقافي، علّنا نجد العلاج الشافي لأمراضنا المزمنة، فنحن أمام مرض عضال ينخر جسد الأمّة، منذ فجر الإسلام،  عجز عقلاء الأمّة وفقهاؤها عن تشخيصه وعلاجه.
فالتاريخ ليس كما يتوهّم البعض علم الماضي فحسب، وليس لغواً، بل هو علم الحاضر والمستقبل.

بدأ المرض بترويج فكرة مفادها: بأنّ لكلّ عبادة أو أمر ظاهراً هو كالقشر وباطناً كاللّب، واللبّ خير من القشر،  وكل قائل لذلك يعتبر باطنياً، وإن النصوص الدينية لها معنيان: أحدهما ظاهر يفهمه الناس بواسطة اللغة، وبمعرفة أساليب الكلام، والثاني باطن لا يدركه إلا الذين اختصهم الله بهذه المعرفة، وأخذوا يحرّفون ظواهر كتاب الله وسنّة رسوله إلى معان مستبطنة وتأويلات غريبة، فالطهور ليس هو الوضوء المعروف، وإنما المراد به التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى مبايعة الامام، والصيام الامساك عن كشف السر، والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام، وطوفان نوح عليه السلام طوفان العلم الذي أغرق المتمسكين بظواهر الكتاب والسنة، ونار إبراهيم عليه السلام التي ألقي فيها هي عبارة عن غضب النمرود، وليست نارا حقيقة، وزعموا أن جن سليمان هم باطنية ذلك الزمان، والشياطين هم الظاهرية الذين كلّفوا بالأعمال الشاقة..الخ.

وانتشر المرض في جسد الأمّة كالسرطان، فقالوا بإسقاط التكاليف الشرعيّة واستحلال المحرّمات، وتحريف شريعة الأنبياء والمرسلين، وإنكار البعث والثواب والعقاب، وكانوا يوصون دعاتهم بأن لا يتكلّمون في بيت فيه سراج، يقصدون من عنده علم.
ووضعوا البخور في المجامر داخل المساجد لا لإطلاق رائحة العود الطيّبة، ولكن لتحويل المساجد إلى بيوت للنار التي يحنّون لعبادتها.
وليت الأمور انتهت عند هذه الدرجة، فقد باطن ابن العلقمي وزير المستعصم العباسي التتار وناصحهم وأطمعهم في المجيء إلى العراق وأخذ بغداد، وقطع الدولة العباسية ليقيم خليفة من آل علي، إلى أن وصلوا العراق فسلم إليهم مفاتيح بغداد.
وتجرّأوا على انتهاك أغلى المقدّسات الإسلاميّة، فهاجم أبو طاهر الجنابي رأس القرامطة ـ الذين جمعوا بين الدهرية الزنادقة والمجوسية الإباحية ـ البلد الحرام يوم التروية والناس محرمون فقتل منهم ثلاثين ألفاً، ووضع السيف بالناس وأكثر النهب والحرق، نهب أموال الحجّاج بالمسجد الحرام وقتلهم، وخلع الحجر الأسود من جدار الكعبة وأنفذه إلى هجر، وقلع باب الكعبة، وطرح القتلى في بئر زمزم، وسبى ما يقارب الثلاثين ألفاً من النساء والغلمان، وكان جلّ جنده من بقايا فلول الزنج والخرميّة وبعض الأعراب.
ولجأ الحسن ابن الصبّاح إلى الاغتيال السياسي، فخدع رجاله الأحداث بالدعوة الدينية ونصرة أهل البيت، واستعان عليهم بالمخدر ودعا إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، واستظهر بالرجال، وتحصن بالقلاع.
وقام الحشاشون بقتل العلماء والقادة والأمراء، وتحالفوا مع الصليبيين، وكانوا عوناً لهم. 
وأفنى الحاكم بأمر الله رجالاً، وأباد أجيالاً، وكان يقتل خاصّته، وأقرب الناس إليه، ادعى الألوهيّة وصرّح بالحلول والتناسخ وحمل الناس عليه، وألزم الناس السجود إذا ذكر.
ونقل السيوطي أنّه في سنة أربع وتسعين كثر أمر الباطنية بالعراق وقتلهم الناس واشتد الخطب بهم حتى كان الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم.
واغتالوا الوزير نظام الملك الذي ذكره ابن السمعاني فقال كعبة المجد ومنبع الجود وكان مجلسه عامرا بالقراء والفقهاء، أنشأ المدارس بالأمصار ورغب في العلم وأملى وحدث؟
واغتالوا الأمير مودود الذي هزم الصليبيين هزيمة منكرة، حتى حزن عليه عدوّه بغدوين ملك الفرنج، وعندما وصله خبر مقتله على أيدي الباطنيّة أرسل رسالة للأمير طغتكين بدمشق يقول له فيها: إن أمة قتلت عميدها يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها.
واشتدّ الخطب بالمسلمين بسبب الجرائم التي ارتكبها الباطنيّة، ووجد الفرنج الفرصة سانحة للاستيلاء على عدد من البلدان. 
واستفحل عدوان الباطنيّة على الأمّة، فتحولت جرائم الاغتيال إلى حرب إبادة واستئصال، يروي الشوكاني في (البدر الطالع) عن قطب الدين الحنفي في الأعلام، أن إسماعيل الصفوي قتل زيادة على ألف ألف نفس، بحيث لا يعهد في الجاهلية ولا في الإسلام ولا في الأمم السابقة من قبل في قتل النفوس ما قتله شاه إسماعيل، وقتل عدة من أعاظم العلماء، بحيث لم يبق من أهل العلم أحد من بلاد العجم، وأحرق كتبهم. 
لقد كلفت عملية تحويل المسلمين في إيران من المذهب السني إلى مذهب الدولة الجديدة، في عهد مؤسس الدولة الصفوية السلطان إسماعيل نحو مليون مسلم سني، حسب تقديرات المؤرخين المعاصرين لتلك المجازر.
ولا يكاد المسلمون ينسون أفعال الباطنيّة الشنيعة حتى يخرج إلى العلن باطني جديد يتستّر بشعارات الوحدة وهو ألد أعدائها، وبالاشتراكيّة وهو أحد أكبر الأثرياء، جمع ثروة من عرق الفقراء ونهب المال العام، وبالحريّة وقد غصّت سجونه ومعتقلاته ومنافيه بالأحرار.
لقد دوّن أحرار سوريّة تقارير معزّزة بالأدلّة الدامغة، والصور الموثّقة، المجازر والجرائم التي ارتكبها حافظ الأسد وابنه بشّار بحق أهل السنّة في سوريّة ولبنان خلال فترة حكمهما، وما فعله الحاقدون في السجون من أفانين القتل والتعذيب، وما دمّرته آلته الحربيّة، وبراميله المتفجّرة، واستخدامه الأسلحة المحرّمة دوليّاً، وحصاره الأحياء والأرياف لمنع دخول الطعام وحليب الأطفال، وقطع المياه، فتندرج في جرائم الحرب.
ألم يقتل هذا الباطني تحت أنقاض البيوت المدمّرة والأسواق المزدحمة، والمساجد العامرة والمستشفيات أكثر من نصف مليون مواطن سوري، ويهجّر أكثر من سبعة ملايين إلى مخيّمات اللجوء، وما أظنّ أنّ أحداً قتل هذا العدد الهائل من المسلمين بعد إسماعيل الصفوي إلا آل الأسد. 
أمّا ما يرتكبه حزب الله اللبناني والفصائل الباطنيّة التي استدعاها آل الأسد لقتل أهل السنّة في الديار الشاميّة، وما يقوم به الحشد الشيعي في العراق تحت دعوى الحرب على الإرهاب، فقضيّة خطيرة تحتاج لدراسة عميقة لهذه الظاهرة الساديّة الغريبة، تعيد إلى الأمّة رشدها.
فالباطنية بهذه الصفات والممارسات ليست مذهبا إسلاميا أو فرقة من فرق أهل الإسلام، وإنما هي مذهب قائم على الحقد والانتقام، وطريقة أراد بها واضعوها هدم الإسلام وإبطاله عقيدة وشريعة، كما ذكر ذلك الإمام الغزالي في كتابه "فضائح الباطنية".
ولو كانت فرقة تنتمي إلى الإسلام لما غيّرت وبدّلت وأوّلت، ولما اغتالت الأمراء وغدرت بالمسلمين وسعت لاستئصالهم، وتآمرت عليهم، ولما أبعدتنا هذه الفرقة عن ميادين الفتوح ونشر الإسلام في أوروبا، وحالت دون تهجير المسلمين وإبادتهم وتنصيرهم في الأندلس.
ومع هذا فإنّ فهم سلوك الباطنيّة في الماضي والحاضر، يتيح الفرصة للعثور على عناصر مشتركة بين مشاكل الحاضر والمستقبل، مما يجعل حلّها عند الحكماء أمراً ممكناً.

 وطوبى للغرباء 

01/04/2017

الزيارات: 1451