وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ

نشر بتاريخ: الإثنين، 04 آذار/مارس 2019 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

كان أبوه تاجر تبغ، مكلّف بخفارة الطريق ببلده قولة التابعة لمقدونيا، ونشأ يتيماً بكفالة صديق والده، الذي الحقه بالجنديّة، تولى منصب نائب رئيس الكتيبة الألبانية المتوجّهة إلى مصر لمحاربة الفرنسيين، ولمّا أصدر السلطان العثماني سليم الثالث في التاسع من يوليو لعام 1805م، فرماناً، عزل بموجبه خورشيد باشا من ولاية مصر، شغر منصب الوالي، فتوسّم العلماء وعلى رأسهم نقيب الأشراف أبو الأنوار السادات في قائد الحامية العثمانيّة محمد علي الألباني الخير، ولم يدر عمر مكرم أنه أعان ظالماً، سيحوّل البلاد إلى ضيعة له ولأهله لا يشاركه في ملكها أحد، وأرسلوا رسالة إلى الباب العالي بهذا الخصوص، فجاء الأمر السلطاني بإقرار ما فعله العلماء وأهل مصر، وقام أعيان البلاد بمبايعته ليكون واليًا عليها، واشترك في إلباس محمد علي باشا خلعة الولاية شيخ الجامع الأزهر عبد الله الشرقاوي.


وما أن شعر بالقوّة حتى سخّر موارد الدولة لأهدافه، وقام بتوزيع أراضي المماليك، واستملك أراضي الأوقاف، وتنكّر للعلماء الذين رشّحوه لهذا المنصب، وفي مقدمتهم عمر مكرم الذي نفاه إلى دمياط، منفّذاً الدرس (الميكيافيلي) القائل: إنّ على الحاكم تحطيم أولئك الذين رفعوه إلى الحكم.
وقضى على المماليك في مذبحة القلعة عام 1811م، ونكّل بالوهابيين 1818م، ولم يمانع من احتلال الفرنسيين للجزائر وإلهاء الدولة العثمانيّة أثناء احتلالها.
ثم انقلب على الدولة العثمانيّة وحارب السلطان محمود وملك عكا والشام عام 1833، ثمّ انعقد الصلح بينه وبين السلطان عبد المجيد، فترك الحجاز والشام، وأعطى ولاية الأقطار المصريّة له ولأولاده، وبقي في الحكم حتى أصابه الخرف، واختل به عقله، فتولّى ابنه إبراهيم باشا.
وهكذا انشقت مصر عن الدولة العثمانية  وحكمها عشرة من أسرة محمد علي  مابين خديوي وملك كان آخرهم فاروق، كانت مصر خلالها ألعوبة بيد الإنجليز والفرنسيين.
ولم تفلت مصر من قبضة العسكر بعد رحيل أسرة محمد علي باشا، البكباشي الأوّل المنشق عن الدولة العثمانيّة، فجاءت المؤسّسة العسكريّة بالبكباشي الثاني جمال عبد الناصر 1952، ونائبه أنور السادات، والمخلوع حسني مبارك، والفريق أوّل عبد الفتاح السيسي في عام 2013.
ترأس جمال عبد الناصر مجموعة الضبّاط الأحرار التي أطاحت بالنظام الملكي في 23 تموز 1952 لكنّه لم يشارك في تحريك القوّات لأنّه كان مدرّساً في كليّة أركان الحرب، وكان ليلة الانقلاب يرتدي الملابس المدنيّة مع عبد الحكيم عامر، ينتظر نتيجة الانقلاب.
وتخلّص جمال عبد الناصر من اللواء محمد نجيب وأعفاه من منصبه وعرّضه للذل والهوان، وطوى رئاسة الجمهوريّة الأولى، وتخلّص من أعضاء مجلس الثورة الواحد بعد الآخر، ودبّر للإخوان حادث المنشيّة الملفّق، وأعدم القافلة الأولى والثانية من قادتهم، وحكم مصر دون رقابة، وأمم الصحف والمجلاّت، وأصدر القوانين الاشتراكيّة التي أفقرت الأغنياء وأجاعت الفقراء، وزجّ قوّاته في حرب اليمن إلى جانب الجمهوريين سنة 1962، وخاض مع الملكيين حرباً فقدت مصر خلالها الآلاف من أبناء شعبها، ولم يتخذ الرئيس أي إجراء رادع لمنع تحويل نهر الأردن في عهد الوحدة، وفشل في حماية الوحدة بين مصر وسوريّة، وكان وراء الانقلابات العسكريّة الشموليّة في سوريّة وليبيا والعراق، وختم حياته بهزيمة حزيران وضياع غزّة والضفّة والجولان، ووصول القوّات الإسرائيليّة مشارف القاهرة عام 1967، ولم يتمكّن خلال حياته من استرجاع ضفّة القناة الشرقيّة.
وعقب وفاة عبد الناصر عين نائبه محمد أنور الساداتي رئيسا للجمهورية طبقا للقانون والدستور، وانتخب رئيسا للجمهورية في 15 أكتوبر 1970، وعندما جلس على مقعد عبد الناصر قال: إنّ فرداً مهما كانت عظمته وقوّته لا يستطيع أن يشغل مكان عبد الناصر وموقعه، ثمّ قاد حملة شرسة وضارية ضدّ عبد الناصر، وشجّع نشر سلبيات وانحرافات العهد السابق، وقضى على مراكز القوى في عام 1971، فيما عرف باسم ثورة التصحيح، وأعلن في مجلس الشعب في عام 1977، استعداده للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي من أجل تحقيق السلام، واستعاد سيناء في عام 1979 منزوعة السلاح، وزار القدس ووقع مع شريكه مناحيم بيجن (اتفاقية كامب ديفيد) للسلام في عام 1979، وكشفت التحقيقات بعد اغتياله على يد الملازم خالد شوقي الإسلامبولي على المنصّة في عام 1981، فضائح ماليّة وجرائم اقتصاديّة في حق مصر.
وجاء من المؤسّسة العسكريّة بعد اغتيال السادات نائبه حسني مبارك، فسار على نهج سلفه في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، واستقبل الوفود الإسرائيليّة، واستعدى أمريكا والغرب على الجماعات الإسلاميّة، وفتح المعتقلات وأعدم أعداداً لا تحصى من أعضاء هذه الجماعات، وأخضع البلاد لقانون الطوارئ والقوانين الاستثنائيّة، ومنع قيام معارضة حقيقيّة، واختلق أزمة حلايب مع السودان الذي كان يواجه مشكلة التمرّد في الجنوب منفرداً، وساهم في انفصال الجنوب، ولم يتدخّل لمنع مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك، وتحالف مع الأمريكان في حرب الخليج ضدّ العراق، وأرسل قوّاته إلى الخليج عام 1990، وحاصر غزّة، وفي عهده تدهور الاقتصاد، واشتدّت وطأت الديون، وانخفضت قيمة الجنيه المصري، وعانى الشعب المصري البطالة والفساد، وعندما أراد التمديد لحكمه وتوريث ابنه جمال ظهرت (حركة كفاية) وخرج النقابيّون والإسلاميّون للتظاهر، وثار الشعب المصري ضدّه في مطلع عام 2011، واتهم  مع أبنائه ورجال حكمه بالفساد وسرقة الأراضي، ونهب ملايين الجنيهات، وجرى عزله ومحاكمته وتبرئته.
وانتهز الجيش فرصته للاستيلاء على السلطة لمّا وجد مؤسّستة أقوى من مؤسّسة الرئاسة، فاختار الانقلاب ملبياً طموحات السيسي لحكم البلاد، فعزل الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3/7/2013، الذي سلّم بامتيازات الجيش ومنحه امتيازات إضافيّة، ورفّع السيسي إلى رتبة مشير.
ومن المثير للانتباه تطويع الدين لصالح الحكم الجبري من خلال فتيا علماء السلطان، حيث أصدر شيخ الأزهر أحمد الطيّب في 19/6/20132 فتوى تبيح الخروج على الحاكم الظالم جاء فيها: "المعارضة السلميّة لولي الأمر الشرعي جائزة ومباحة شرعاً، ولا علاقة لها بالكفر والإيمان"
وكانت آخر المسرحيّات المضحكة جلوس شيخ الأزهر أحمد الطيّب، وبابا الأقباط تواضروس، ورئيس حزب النور السلفي يوسف مخيون والأمين العام للحزب جلال مرّة، ومحمد البرادعي مفوّضاً عن قوى 30 يونيو، وثلاثة أعضاء من (حركة تمرّد) برئاسة محمود بدر، على الخشبة ليعطوا الغطاء المدني للانقلاب، ويدّعوا أنّ ماجرى ثورة شعبيّة على حكم الرئيس محمد مرسي، وليس انقلاباً، لأنّ الجيش تحرّك مع الشارع الذي يمثّلوه.
وبينما كان قائد الانقلاب العسكري الفريق عبد الفتاح السيسي يلقي البيان الأوّل للانقلاب، كانت القواعد الشعبيّة للرئيس المدني الشرعي تجتث من جذورها، وتذبح بسلاح الجيش في ميدان رابعة، وجرى اعتقال الآلاف من خيرة أبناء مصر في السجون والليمانات، في ظروف قاسية حيث فارق الحياة تحت التعذيب وسوء المعاملة المئات، وفرض النظام عبر أحكام القضاء، ونفّذت أحكام إعدام بحق 42 شخصاً حتّى الآن، آخرهم تسعة شباب من خيرة أهل مصر، اعترفوا بارتكاب جرائم تحت التعذيب لم يرتكبوها.
ومنذ اليوم الأوّل للانقلاب جرى التفريط بحقوق مصر المائيّة، وترك النيل شريان الحياة في مصر نهباً للأحباش، وجرى التفريط بآبار النفط والغاز في الأرخبيل المصري لصالح إسرائيل، وفشل الانقلاب في معالجة مشكلة سينا، وأصاب الانقلاب الاقتصاد المصري بمقتل عندما أعلن الحرب على (الإرهاب) فكانت النتيجة أن منعت الحكومات مواطنيها من السفر إلى مصر، وحرم الاقتصاد المصري من عوائد السياحة الهائلة، وانهارت قيمة الجنيه المصري بسبب التضخم والفساد، وتخلّى عن مسؤليّاته الأخلاقيّة تجاه الشعب السوري في محنته، وأدار ظهره لمأساة اليمن، ووقف ضد عودة الحياة المدنيّة والاستقرار إلى ليبيا.
كان تزوير الانتخابات صفة ملازمة لكل انقلاب، ولم تكن المجالس البرلمانيّة تعبّر عن قضايا الشعب، واقتصرت مهمتها على منح الشرعيّة لقرارات الحكومة، وكانت نتائج الاستفتاءات مضحكة، وفقدت وسائل الإعلام مصداقيّتها.
 العقليّة العسكريّة منذ ابن الدخاخيني لم تتغيّر، حتّى ولو سمّوه باني مصر الحديثة.
وإنّ المتابع لحكم العسكر الديار المصريّة منذ انفصالها عن الدولة العثمانيّة ليصاب بالكآبة والحزن، عما آلت إليه أحوال مصر وشعبها، بالمقارنة مع دول مثل ماليزيا وتركيّا وألمانيا.
ورحم الله أبا الطيّب حيث يقول:
وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ      وَلَكِنّهُ ضَحِكٌ كالبُكَا
وطوبى للغرباء                                                                 رئيس التحرير
1/3/2019                                                                   محمد علي شاهين

الزيارات: 1487