التاريخ يكتبه المنتصرون

نشر بتاريخ: الإثنين، 03 شباط/فبراير 2020 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

ثار الفرنسيّون على الفساد والاستبداد، وامتيازات رجال الدين، والطبقة الارستقراطيّة، واقتحموا سجن الباستيل، وأقاموا الجمهوريّة، وأعلنوا مبادئ حقوق الإنسان، ودعوا لتوزيع عادل للأرض، وألغوا نظام الإقطاع ونفوذ النبلاء، واستمرّت الثورة متقدة نحو عشر سنوات بين عامي: (1789 ـ 1799)، واختتمت فصول الثورة بسقوط رأسي الإمبراطور لويس السادس عشر، والأمبراطورة ماري أنطوانيت، تحت شفرة الآلة الشيطانيّة المسماة ب(المقصلة) التي تفصل الرأس عن الجسد بضربة واحدة، ومعهما 17 ألف فرنسي أعدموا بالمقصلة أيضاً، ونحو 40 ألفاً قتلوا بدون محاكمة في السجون، يوم كان عدد سكان فرنسا 27 مليون فرنسي، قبل أن تسقط المنظمومة الفكريّة والقيميّة بيد ديكتاتور جديد هو نابليون بونابرت.

ولم تكن الثورة البلشفيّة عام 1917 على القيصر نيكولاس الثاني تنحو هذا المنحى العنيف، لولا أنّ قيصر أعدم شقيق لينين الأكبر، وأطلق النار على الجياع المطالبين بالخبز. 

وما هزيمة ألمانيا في الحرب العالميّة الأولى، إلاّ الشرارة التي قدحت الثورة الألمانيّة عام 1918 على القيصر فيلهلم الثاني حيث أعلنت الجمهوريّة وفرّ فيلهلم الثاني هارباً. 

 

وما كان الربيع العربي بدعا من الثورات العالميّة، وما ثورة الكرامة في سوريّة إلاّ نموذجاً حيّاً يجب أن يحظى بالتدوين بأمانة بكل تفاصيله، وأن تحفظ وثائقه وبياناته ووقائعه للأجيال،  وأن يخضع للدراسة والتحليل والنقد الموضوعي، لتؤخذ منه الدروس والعبر.

فقد سئمنا منطق التزييف والتلفيق والخداع والكذب لأحداث لا نزال شهوداً عليها، وأصبح الكذّاب صادقاً، واللص أميناً، والخائن وطنيّاً، وعلى الأخيار في هذا العالم أن يدوّنوا الأحداث بالتفصيل قبل أن يحرّفها المخادعون.

ويحضرني وأنا أكتب هذه الكلمات أنّني احتجت لمراجعة بعض وقائع الثورة السوريّة عام 1925، فقلبت فهارس إحدى المكتبات العامّة، فلم أجد سوى كتيّبات صغيرة وأبحاث مجتزأة تتحدّث عنها، ثم وجدت كتاباً نسب فيه مؤلّفه البطولة وشرف الاستقلال لأشخاص من طائفته وحدها، رغم أنّ التاريخ الشفوي المحفوظ في ذاكرة المعمّرين يحوي مالا يحسن نشره .

والزائر لعواصم العالم المتمدّن الذي حالفه الحظ لزيارة خزائن المكتبات العامّة، يعجب للهمم العالية العاكفة على تدوين الأبحاث والدراسات الجادّة التفصيليّة لحركة التاريخ، وحمايتها من الضياع.

بينما تخلو مكتباتنا العامّة المبنيّة على أحدث طراز معماري، من روّادها الذين هجروها إلى المقاهي ومجالس الغيبة والنميمة، وكان أقراننا ينتظرون القيّم على باب المكتبة ليفوزوا بمقعد خشبي  متهالك خلف الكتاب.

أمّا الباحثون النقّابون عن الأفكار والمعاني العاشقون للأدب وفنّ القول، العاكفون على كتابة التاريخ، فقد نسيهم الناس في زحام المدن وضجيجها، وكسدت سلعتهم.

وكان الناس يجعلون مجلّدات الكتب في صدر خزائن بيوتهم، ليوهموا زوّارهم بأنّهم أهل علم وأدب، فأصبحت ربّة المنزل (الجامعيّة) توقد المدفأة بالكتب كلّما ارتفعت أسعار الحطب، وتفتعل معركة حامية مع زوجها إذا اشترى كتاباً. 

يستطيع المتسلّط على رقاب الشعب دهراً أن يزيّف الحقائق البادية للعيان، ما دام على عرش السلطة، وأن يتهم المناضلين بالإرهاب، وينكر على المجاهدين شرف التضحية والاستشهاد، في زمن كثر فيه المنافقون، وأن يبرّئ نفسه من جميع الجرائم والموبقات، ويجعل ذلك في كتاب.

ولكنّه لا يستطيع الفرار من أقلام النقّاد وألسنتهم  الحداد مهما حاولت أبواقه قلب الحقائق، وتزيين مقالته بالكلام المعسول، وتجميل صفحات كتابه بالألوان الزاهية، وتغليفه بالكلمات المذهّبة، لأنّه سيرحل يوماً ما ويأفل نجمه، وعندئذ سيكتب التاريخ المنتصرون. 

 

وطوبى للغرباء                                                                   رئيس التحرير

1/2/20209                                                                  محمد علي شاهين

 

الزيارات: 1087