مركب الحياة

نشر بتاريخ: الأحد، 31 آذار/مارس 2019 كتب بواسطة: محمد علي شاهين

وصلنا الشاطئ مبكّرين في الموعد المحدّد .

التقينا بمعلمنا عند الصخرة البيضاء، والابتسامة تملأ وجوهنا، فتصافحنا بحرارة، وتوجهنا دون إبطاء نحو القارب الذي كان في انتظارنا.

كان البحر هادئاً، والريح رخاءً، والسماء الزرقاء الصافية ملونةً بالشفق الأحمر، كأنها لوحة غروب فائقة الجمال .

وقفنا حفاة الأقدام مشمّرين فوق المياه الضحلة متلهّفين للصعود نحو قارب الرحلة غير عابئين ببرودة ماء البحر وهبّات نسيم الصباح .

سحب المعلم المرساة الحديديّة من القاع دون عناء، ودفع القارب باتجاه رفاق الرحلة حتى لامسته أيديهم الصغيرة .

 

أخذ المعلم بأيدينا وهو يبتسم، تلك الابتسامة الجميلة التي لم تفارق وجهه المشرق حتى نهاية الرحلة، حتى صعدنا القارب جميعاً، فتوزّعنا المسطّحات الخشبيّة القليلة في مقدمة القارب ومؤخرته، وأمسكنا الأسافين الناتئة على الجانبين لنحافظ على استقرار القارب الصغير فوق الماء، ونحفظ توازننا داخله .

تأكدنا من تحميل شبكة الصيد، وجردل الماء، وموقد الغاز، والمجاديف الاحتياطيّة، وما حمله المعلم والرفاق من ماء وطعام .

فتح المعلم بين أيدينا قطعة مثلثيّة من القماش ناصعة البياض كأنه يقلّب صفحات كتاب، وجاء بحبل قويّ من الليف فربطه بطرفها، ثم انتصب واقفاً وسط القارب فنشرها فوق الصاري كأنه بحّار عتيق، بينما كان القارب يسبح فوق الماء، ويبتعد عن اليابسة قليلاً قليلاً، ويتخذ خطاً مستقيماً لسيره يوازي الشاطئ ولا يحيد عنه .  

     

 جلس المعلم القرفصاء في مؤخّرة القارب بهدوء يحدّق في وجوهنا الوجلة  من ركوب القارب، وهو يمسك بدفّة التوجيه بكل ثقة، وأخذ ينشد بصوته الخشن القوي أناشيد البحارة والصيادين ونحن من حوله نردد ضاحكين غير عابئين بالأخطار المحيطة بنا، ولا بدوار البحر والغثيان الذي أصابنا .

تغلب الرفاق على الخوف والدوار وشغلوا بالأسماك الملوّنة، والجزر المرجانيّة، والقواقع والأصداف وحشائش البحر، وهي تتلألأ وسط الماء كأنها لوحة رائعة الجمال تحت لوح من زجاج .

واكتشفنا تحت الماء عالماً جديداً غير عالم الأحياء فوق اليابسة، وكنا نظن أننا فوق الأرض وحدنا المخلوقين السعداء .

انتصف النهار، وأخذ الجوع منا كل مأخذ، فأمر المعلم بفرش ما أحضرناه من طعام الرحلة فوق ظهر القارب، إلا أننا لم نعثر على أثر للطعام فوق القارب .

قال المعلم: ألم تحضروا معكم طعام الرحلة . ؟ 

قال أحد الرفاق: ربما نسيناه على الشاطئ .

وقال الآخر: لن نذوق الطعام حتى نعود إلى بيوتنا وقد أنهكنا الجوع .

أحضر المعلم شبكة الصيد من جوف القارب وهو يبتسم متفائلاً، فألقاها في اليمّ حتى غاصت تحت الماء، والرفاق من حوله يتضوّرون جوعاً .

قال المعلم وهو يسحب الشبكة وقد بدت عدّة سمكات تتخبّط وتتلوّى داخلها وهو يضحك: 

ما رأيكم بوجبة شهيّة من السمك يا أبنائي . ؟ 

وقبل أن يجيب الرفاق على سؤال المعلم توزّعوا العمل في القارب، ونظفوا الأسماك، وأشعلوا موقد الغاز .

وجاء المعلم بطعامه فإذا هو خبز وفير، وزيت للطهو في زجاجة، فملأ المقلاة، وفاحت رائحة السمك المقليّ حتى سال لعاب الجائعين، فأكلنا جميعاً حتى نفذ الخبز، ولمّا ينفذ السمك اللذيذ . 

وبينما كانت الشمس تغرب خلف الأفق كان القارب يقترب من الشاطئ، فلم نشعر بدنوّه من اليابسة حتى توقف المعلم عن ترديد أناشيد البحّارة وهو يلقي مرساته، ومن حوله رفاق لا يودون مغادرة القارب . 

 

في اليوم التالي سمح المعلم لأحد الرفاق بالاعتراف عن دوره المدبّر في إخفاء الطعام، فأدركنا معاني درس لا ينسى تعلمناه على ظهر القارب، خارج المنهاج المقرر، أما صورة هذا الحكيم وهو يمسك دفّة القارب فلم تفارق خيالي .

(تمت)

* * * * *

الزيارات: 1370