محمد أديب بن محمد صالح
عالج قضايا العصر بروح متحرّرة من قيد التعصّب، وضيق الأفق، والنفاق السياسي
(1344/1926ـ 1438/2017)
مفكر إسلامي بارز، أحد شيوخ الدعوة في الديار الشاميّة، عالم محقّق، رئيس تحرير مجلة (حضارة الإسلام) بين عامي (19641981) رئيس قسم الكتاب والسنّة بجامعة دمشق، ورئيس قسم أصول الفقه بكليّة الحقوق فيها، ورئيس قسم أصول الدين بالجامعة الأردنيّة، ورئيس قسم السنّة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة بالرياض وعضو مجلسها العلمي، وعضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة.
ولد في بلدة قطنا الواقعة إلى الجنوب الغربي من دمشق، الممتدّة بين سفوح جبل الشيخ وجبل حرمون.
نشأ في أسرة متديّنة، توفي والده بعد ولادته بستّة أشهر، فنشأ يتيماً عفيفاً برعاية أمّه، وكانت امرأة فاضلة، عوضته عن اليتم بانقطاعها لرعايته والاهتمام بشأنه، وتتلمذ على عالم قطنا ومفتيّها الشيخ إبراهيم الغلاييني الذي حبّب إليه العلم الشرعي، وقرأ عليه القرآن الكريم ومبادئ العلوم الدينيّة واللغويّة، ثم توثقت الصلة بينهما عن طريق المصاهرة، فتزوّج إحدى بناته.
توجّه إلى دمشق لدراسة العلوم الشرعيّة فنال الكفاءة والثانويّة الشرعيّة من المعهد الشرعي للجمعيّة الغرّاء، وكذلك الكفاءة والثانويّة العامّة، مما أهله للالتحاق بكليّة الشريعة وكليّة الحقوق في الجامعة السوريّة، ثم أوفد إلى مصر، فكان يقدِّم اختبارات الدَّورة الأولى في الأزهر بمصرَ واختبارات الدورة الثانية في كليَّة الحقوق بدمشق.
واستطاع إنهاء المرحلة الجامعيّة بتفوّق في عام 1949 بسبب ما يمتلكه من طاقات فكريّة وروحيّة، وفي دمشق تتلمذ على الشيخ مصطفى الزرقا، والأستاذ علي الطنطاوي، والشيخ هاشم الخطيب، وغيرهم من علماء الشام، واشتغل بعد تخرّجه بالتدريس في ثانويات حلب ودمشق ودور المعلمين ما بين العامين (19491956).
ثم أوفدته كليَّة الحقوق بجامعة دمشق من جديد إلى كليّة الحقوق بجامعة القاهرة لدراسة الدكتوراه، فنال درجة الدكتوراه بدرجة الشرف الأولى سنة 1384/1964، وكان موضوع أطروحته: (تفسير النصوص الشرعيّة الإسلاميّة)، وكان موضع إعجاب رئيس اللجنة الشيخ محمد أبو زهرة، ولقي في مصر كبار العلماء وشيوخ الدعوة الإسلاميّة أمثال: الشيخ علي الخفيف، والشيخ فرج السنهوري، والإمام حسن البنا، وكانت مصر في تلك الفترة تعجّ بالنشاط الفكري والسياسي، وعكف على كتب الفقه والتراث، واشتهر بين أقرانه بالجدّ والمثابرة، والتواضع في طلب العلم.
وعاد إلى سوريّة فعمل أستاذاً في كليّة الشريعة، والحقوق بجامعة دمشق، وتولّى الخطابة في مسجد جامعة دمشق، ومساجد بلدته قطنا، وعقد الحلقات الشرعيّة، وحضور المؤتمرات العلميّة، وتولّى رئاسة تحرير (مجلّة حضارة الإسلام) خلفاً للمرحوم الدكتور مصطفى السباعي سنة 1384/1964 وكتب فيها مقالات متميّزة بالانفتاح على الفكر العالمي، والثقافة الموسوعيّة، والقدرة على معالجة قضايا العصر بروح متحرّرة من قيد التعصّب، وضيق الأفق، والنفاق السياسي الذي كان سمة من سمات تلك الفترة النكدة من حياة أمتنا.
وفي محاضرة له في مقرّ (جمعيّة الدراسات والبحوث الإسلاميّة والمعهد العالمي للفكر الإسلامي) بعنوان: (مجلّة حضارة الإسلام) من العام (1964-1981) (معالم وذكريات).. تحدّث عن المرحلة التي تولّى فيها رئاسة تحرير المجلّة فقال: إن (مجلّة حضارة الإسلام) من الناحية الفكريّة والثقافيّة قد ورثت ما نسميه أو يسميه الباحثون بالمرحلة (العقلانيّة) التي يمثلها الشيخ محمد عبده، موضّحاً أنّ طبيعة المرحلة في ذلك الوقت كانت تتمثل بأنّ الإسلام أشبه بالمتهم، وكان لابد من إعمال العقول في الدفاع عنه، مؤكّداً بأن (مجلّة حضارة الإسلام) قد تجاوزت هذه المرحلة التي ورثتها زمنياً، حيث كانت تمثل الأصالة والذاتيّة بعد تجاوز المرحلة السابقة ؛ وقال: كان بين المجلة وقرّائها من المحبّة والود ما يجعلنا نشعر أنّ هناك هيئتين للتحرير، إحداهما وهي الكبرى الجمهور ؛ وكان وفياً للشيخ مصطفى السباعي، يذكره دائماً ويثني عليه في مقالاته.
والعالم عنده مثل صادق معبّر عن المكان الطبيعي للمعرفة في بناء الفكر الإسلامي، وهو الحارس الأمين للمبادئ الخيّرة، التي نادى بها الوحي قرآناً عربيّاً، ثم تناولها بالبيان من قلّده الله أمانة البيان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وفي المملكة العربيّة السعوديّة، تفجرت طاقته العلميّة، وظهر نبوغه، وسط الأجواء العلميّة التي عاشها في الجامعات، ومراكز الدراسات، وتتلمذ على يديه عدد من النابهين المتميّزين في العلوم الشرعيّة والدراسات الأدبيّة.
وقدّم على أثير إذاعة القرآن الكريم برنامج (معالم قرآنية في البناء والتنمية) نحو ألف حلقة يوميّة على مدى أربع سنوات، بالإضافة إلى برنامجين ناجحين: (السنة: علومها ومنزلتها من القرآن الكريم) نحو تسعين حلقة، و(اليهود في القرآن والسنة) نحو سبعين حلقة، لقيت القبول عند عامّة المستمعين.
وينقل الشيخ محمد المجذوب رأي الدكتور الصالح في ترشيد الصحوة الإسلاميّة فيقول: "لابد لهذه الصحوة من امور من أهمها:
أربط الشباب بالأصول في فهم كتاب الله، والوثوق بالحديث النبوي وفهمه، وما يؤصل ثقتهم بمواجهة نصوصهما ومناهج العلماء في فهمها، مما يجعلهم على بينة، وينأى بهم عن الإفراط والتفريط.
بالعمل على ترسيخ صلتهم بنماذج من أعلام هذه الأمة عبر التاريخ، لكيلا ينساقوا مع تفسيرات مادية لتاريخنا، أو إغراق في نظرات تجعل من التاريخ متعبة للشباب.
ودراسة نماذج مضيئة من الإعلام تختار من الميادين كلها تنأى بالشباب عن العاطفة الجامحة، وتشغله بالتأسّي الجاد الذي لا بد له من المعرفة والصدق والعزيمة، وتفسير التاريخ نظرة إسلامية صحيحة في ضوء العقيدة وما هو حقها، يضع الأمور في نصابها.
جـمحاولة اشتمال الصحوة ضمن التيارات التي منها ما يدفع إلى ردة الفعل بسبب ظلم الطغاة وجور أولي التنفيذ، أو انحراف بعض من يتصدون منابر العلم والتوجيه. ومنها ما وقع في حمأة الانشغال بالجزئيات عن الكليات، ويجعل الشاب يقدم ما يراه مهماً وهو غير ذلك على الأهم، الذي هو جمع القلوب على كلمة التوحيد ومقتضياتها، ومواجهة التحديات بوعي وبصيرة، وقدرة على فهم طبيعة الأرض التي يتحركون عليها، والعدو الذي يواجهونه. وما الذي يريده الإسلام في مثل هذه المواقف.
دوإذا سلكت هذه السبيل ممن أقامهم الله على هذا الثغر كان في مقدورنا توظيف الصحوة في المكان المناسب.
وقال: إنّ التوسط في مواجهة القضايا وحل المشكلات وفق المنهج الإسلامي جيد وطيب".
وعكف على التأليف والتصنيف والتحقيق، وتميّز إنتاجه العلمي بالدقّة والخصوبة والموضوعيّة ومنه: (مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط) 1387/1967 و(لمحات في الحديث والبلاغة النبويّة) 1390/1970، و(تفسير النصوص في الفقه الإسلامي. دراسة مقارنة) في مجلدين، وله: (اليهود في القرآن والسنّة) 1414/1994، وهو القسم الثالث من سلسلة يتناول فيها المؤلّف مكر اليهود ومواقفهم من الإسلام والمسلمين، و(أدعياء الهيكل)، و(القيامة عظاتها ومشاهدها في الحديث النبوي) في ثلاثة مجلّدات، و(الربانيّون قدوة وعمل) و(مع الإمام القرطبي. دراسة تحليليّة) و(التقوى مع هدي الكتاب والسنّة وسير الصالحين) في مجلّدين، و(رحلة مع الشامي المرابط شيخ الإسلام الإمام أبي عمر الأوزاعي)، وجمع مقدّماته التي كان يكتبها في مجلّة حضارة الإسلام وأضاف إليها بعض مقالاته المنشورة في كتابيه: (على الطريق) و(معالم في الغاية والمنهج)، وحقّق (تخريج الفروع على الأصول للزنجاني) 1382/1962 و(أحكام القرآن للكياالهراسي الطبري) و(تخريج أحاديث البزدوي) وحقّق وخرّج أحاديث كتاب (علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاّف).
وبعد حياة حافلة بالعطاء، ودّعت الرياض الرجل الذي أعطى العلم حياته، ظهر الأحد الثامن من شوّال 1438 الموافق للثاني من تموز 2017، وصلّي عليه في جامع الراجحي.
________________________________________________________________
(1) صحيفة الجزيرة، محاضرة الشيخ محمد أديب الصالح بمقر جمعيّة الدراسات والبحوث الإسلاميّة بعمّان 22 جمادى الأولى 1425. (2) مقابلة كاتب هذه السيرة مع الدكتور محمد أديب الصالح في منزله بعمّان في 26/8/2004. (3) صحافة الصحوة الإسلاميّة في العالم العربي ص 37 محمد علي شاهين. (4) الألوكة 5/1/2014 العلامة محمد أديب صالح في حديث عن أخيه المربي عبد الرحمن الباني، حاوره الأستاذ أيمن ذو الغنى. (5) رابطة أدباء الشام، الشيخ محمد أديب الصالح، بقلم الشيخ محمد المجذوب.
الزيارات: 2232