دولة ودستور

نشر بتاريخ: السبت، 02 حزيران/يونيو 2018 كتب بواسطة: بقلم: الكاتبة الإسلاميّة رقية القضاة

لم يكد المقام يستقر برسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة، حتى بدأت ملامح الدولة العادلة تتّضح، وشمس الحق تظهر وتمدّ شعاعها الدافئ، ليغمر كل من قصد مداه، وطلب دفئه، والمدينة يومها تركيبة متعددة الأجناس والاعراق، مختلفة العقائد والأديان، فيها اهل الكتاب من اليهود، وبعض أهل الوثنية الذين لم يدخلوا بعد في دين الله، والمسلمون فيها مهاجرون وأنصار، ينحدرون من قبائل مختلفة، وعشائر لها ماض عميق ممتد الجذور من التناحر والحروب، والتنافر والاقتتال، ويتمّ الله تعالى فضله عليهم، فيدخلون في حمى الإسلام ويتفيّؤون ظلاله الرحيمة.


ويسعى الرسول صلى الله عليه وسلم أوّل ما يسعى، إلى وضع دستور يضمن للجميع حريّتهم وكرامتهم، ويبين لهم حقوقهم وواجباته، ويلتفت إلى أهل الجوار من اليهود، ويشملهم بتلك المبادئ السامية العظيمة، في خطوة ستظل أبد الدهر محطة يتوقف عندها كل من يتهم الإسلام باضطهاد الأقليات، او استثناءهم من الخطط الإيجابية التي تنتظم في دستور الدولة، او أولئك الذين يدّعون ان الإسلام دين قام على ضرب الاعناق واستعباد الاعراق، واستثناء ما دون المسلمين من الخير والرحمة التي جاء بها دين الاسلام، وهم يخوّفون النّاس من عودة الإسلام إلى واجهة الحياة البشرية، وستبقى آية عدل قدمّها رسولنا الكريم، ويد مروءة مدّها بكل نية طيّبة، حتى لأولئك الذين ما عرفهم التاريخ إلا قوم بهت وغدر، وخيانة ومكر.
وخطوة خطوة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق وحي يوحى، يرتّب بيت الأمّة الجديد، ويضع لها دستورا يتضمن كل ما تحتاجه الدولة الناشئة، ومن فيها من البشر المختلفين في الدين والمعتقد والتراث، فها هو صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين المهاجرين والانصار، ويضع لهم منهج أخوّة يبقى منارا لكل من يعرف حق المس لم على أخيه المسلم،{ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبيّ الاميّ،  بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، أنّهم أمّة واحدة من دون النّاس} فالمسلمون في هذه الوثيقة أمّة واحدة لها تميّزها العقائدي والمسلكي، ولها وشائج تربطها من الاخوّة والتكافل والتراحم، وهم على من بغى على  أي ّواحد منهم، يد واحدة، وقلب واحد، كرامتهم واحدة، وهم متساوون أمام شريعتهم، {وإنّ ذمّة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون النّاس}فهم أولياء بعض ولا ولاء عندهم إلّا لمن والى الله ورسوله، وهم في الحرب والسلم معا، سلمهم واحد وحربهم واحد، {وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن في قتال في سبيل الله الّا على سواء وعدل بينهم} ذلك لأنّ الإسلام جاء ليوجد امّة تتميّز بمعتقداتها، وتشريعاتها، وعلاقاتها الخاصّة والعامة، في حربها وسلمها، وهي بذلك كلّه تتحرّى العدل وتنشد الأمان، وتبعث القيم التي نسيتها الدنيا قرونا، وترسي مبادئ التوحيد والعدل والتآخي والتوادّ، والتعامل القائم على حريّة المعتقد، وبداهة الكرامة الإنسانية، وضرورة الوفاء بالعهد، والحكمة الكاملة في التعامل بين أفراد المجتمع الواحد، الذي يحتمل التعددية العقائدية والثقافية والشرائعية، وتطلق الحريّات كاملة، مالم يكن فيها إضرار بالدولة التي تضم إليها كل هذه الاثنيّات المختلفة، {وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النّصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم،} والعقيدة في عرف الدولة المحمديّة مصانة لحاملها، لا يكره أحد على دين، ولا تكون المخالفة في الدين سببا للاعتداء، على الآخر،{لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه، واهل بيته} فالمخالفة في الدّين لا تبرر الإبادة والتطهير  العرقي، والعدل والرّحمة هي جوهر رسالة الله إلى خلقه، ومحمد الرؤوف الرّحيم، هو أولى وأحق من يحمل هذه الرّحمة ويبلّغها كما أرادها ربّه سبحانه وتعالى،.
لكنّ الدولة التي تحتضن الجميع، لها دين في عنق الجميع، وكما لهم حقوق مصانة، فإنّ لهم واجبات مطلوبة، {وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النّصح والنّصيحة والبرّ دون الإثم، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإنّ النّصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وإن الجار كالنفس، غير مضار ولا آثم،} وتمضي الوثيقة التي أصّلت على مرّ الزمان لكل دولة تقوم على تقوى الله، ومصلحة الإنسان المكرّم، ولتقول لكل حاكم مرّ على هذه الأرض، أن العدل والرّحمة والمساواة والحريّة والقيم المراعية لآدمية الإنسان، هي التاج الحقيقي على مفرقك، وهي السيف القاطع في يدك، وهي الأمان الكامل لك في الدنيا والآخرة، وأن الوفاء والبرّ بين الحاكم والرعيّة، وبين أفراد الأمة انفسهم، ولو اختلفت الديانة والمشارب السلوكية، تظل مطلبا  يسأل الله عنه الحاكم والمحكوم يوم القيامة (وإنّ الله جار لمن برّ واتقى)
أيتها الدنيا التي تعاقبت عليك الدهور، ومرّت عليك العصور، وحطّت في مرابعك الرّحال أمم وحضارات، وتوالت على سكّانك الشرائع والديانات، ننشدك الله، أمرّت عليك شرعة أعظم وأرحب وأعدل من الإسلام، ؟ وهل سار على ثراك من هو أعدل من المصطفى صلى الله عليه وسلم،؟لقد أرسى دعائم العدالة الاجتماعية والإنسانية والأممية، في حركة تغيير وتصحيح، وتحرّر وبعث وإحياء، لا هدف منها إلّا إقامة الخلافة الربّانية،،التي جعل الإنسان ليقيمها على منهج الوحي، والعبادة الخالصة لله، دون ان يكون هناك طرف مظلوم، أو ضحية تداس حقوقها لأجل هذا الهدف على سموه ورقيّه، ومنفعته للناس، فبلّغ الأمانة وادّى الرسالة ونصح الأمة، ونحن على ذلك من الشّاهدين.
رقية القضاة

الزيارات: 1361