هجرة السوريين في ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم
حيثما تعرض المسلمون إلى الظلم والاضطهاد في أرضٍ، فقد شرع الله لهم أن يهاجروا: (إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيمَ كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟!..). {سورة النساء: 97}.
ووعد الله من هاجر في سبيله أن يجد أرضاً يراغم فيها عدوه، ويحاربه بطريقة من الطرق، بل يجد كذلك سَعَة في الحركة، وربما سعة في المال كذلك: (ومن يهاجرْ في سبيل الله يجدْ في الأرض مراغماً كثيراً وسَعَة). {سورة النساء: 100}.
ومع أن الهجرة النبوية كانت في ربيع الأول فإن المسلمين يتذكرون هذا الحدث العظيم في مطلع كل سنة قمرية، حيث إن عبقري هذه الأمة، عمر بن الخطاب، جعل بداية التأريخ هو هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت بداية كل عام تذكر بالهجرة.
انظروا معي إلى فقه أبي القاسم عبد الرحمن السهيلي، صاحب كتاب “الروض الأُنُف في شرح السيرة النبوية” عندما تأمل قول الله تعالى: (لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم). {سورة التوبة: 108}. فقال: قد عُلم أن يوم بناء المسجد ليس أول يوم من أيام الدنيا، وليس لفظ “يوم” مضافاً إلى أيّ شيء في اللفظ، فالظاهر من هذه الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة، مع عمر رضي الله عنه، حين شاورهم في اليوم الذي يجعلونه بداية للتاريخ، فاستقرّ رأيهم على أن يكون التاريخ من عام الهجرة، لأنه الوقت الذي عزّ فيه الإسلام.
وقد كانت الهجرة النبوية نصراً. كيف؟ ألم يُسمّها ربنا نصراً حين قال: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا، ثاني اثنين، إذ هما في الغار…)؟ {سورة التوبة: 40}.
نعم، إنها نصر وأي نصر؟! إنها بدء قيام دولة الإسلام.
ولقد هاجر الملايين من أبناء سورية اليوم. هاجروا بدينهم. منهم من هاجر من بلدة إلى أخرى داخل سورية، ومنهم من هاجر إلى دول الجوار، ومنهم من هاجر إلى بلاد بعيدة… تاركين وراءهم البيوت والأموال. وما أحراهم أن يستشعروا بذلك القدوة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وأن يتخلقوا بأخلاق المهاجرين الأوائل، ليسعدوا بنصرٍ كالذي سَعِد به أولئك المهاجرون.
وإن أول ما يتبادر إلى الذهن من سمات المهاجرين وأخلاقهم هو ما وصفهم به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “المهاجر من هجر ما نهى الله ورسوله عنه”. رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه.
وتحفل السيرة النبوية بأخلاق المهاجرين ومواقفهم الرائعة، فإنهم هاجروا (ينصرون الله ورسوله). {سورة الحشر: 8}. وهاجروا إلى الله ورسوله: “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”. رواه البخاري ومسلم.
ويكفي أن نتذكر موقف صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، حين تعرّض له المشركون، وهو يريد الهجرة، فتخلّى لهم عن ماله كله، على أن يُخلّوا بينه وبين هجرته… وبشّره النبي صلى الله عليه وسلم بأن صفقته هذه كانت رابحة: “ربح البيع ابا يحيى. ربح البيع أبا يحيى”. ونزل فيه قول الله تبارك وتعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله. والله رؤوف بالعباد). {سورة البقرة: 207}.
واليوم، وبعد أن صبر المسلمون في سورية، تحت حكم الطغاة نصف قرن، ثم ثاروا على الظلم، حققوا انتصارات شتى، من ناحية، وتعرضوا كذلك للسجن والقتل والدمار وهجرة الأوطان، ألم يأنِ لهم أن ينالوا جزاء صبرهم، ويقطفوا ثمرات جهادهم؟!. إن ذلك مضمون لهم إذا علم الله منهم الإخلاص له، والتخلق بأخلاق دينه من تجرد وتضحية وصدق ووفاء.
لقد علّمنا كتاب الله تعالى أن المحن طريق للمؤمنين لا بد أن يسلكوه: (ألم. أحسِبَ الناس أن يُتركوا أن يقولوا: آمنا، وهم لا يُفتنون؟ ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين). {سورة الروم: 1-3}.
فهل أعددنا أنفسنا لنكون من الصادقين، ونكون أهلاً لما وعد الله عباده الصابرين والمهاجرين: (فالذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا لأكفرنّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله. والله عنده حسن الثواب). {سورة آل عمران: 195}.
* * * * *