عباس مدني
آمن بالإسلام درعاً للشعب الجزائري، وسبيلاً لتقدّمه وتحريره من الفساد والانحراف
(1350/1931 ـ 1440/2019)
مؤسّس أوّل حزب إسلامي جزائري بالاشتراك مع الشيخ علي بلحاج، شقيقه في الكفاح، والعمل السياسي والإصلاحي، وزعيم (الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ) في الجزائر، مفكّر إسلامي قدير، أستاذ جامعي.
ولد في قرية سيدي عقبة بن نافع، إلى الجنوب الشرقي للجزائر، حفظ القرآن الكريم على والده وكان إماماً في أحد مساجد مدينة بسكرة، وأخذ عنه علوم الفقه واللغة، ثم تتلمذ على الشيخ نعيم النعيمي في مدرسة (جمعيّة العلماء الجزائريين) بمدينة بسكرة، وشارك في النضال الثوري ضد الاستعمار الفرنسي منذ بداية الثورة الجزائريّة تحت قيادة (جبهة التحرير الوطني الجزائري) في ربيع أول 1374/نوفمبر 1954،
وكان قائد العملية المنفّذة لتفجير الإذاعة الاستعماريّة الفرنسيّة التي تمّ إجهاضها، فأدخل السجن حتى نهاية الثورة، وكان يعتقد بان الدولة التي جاهد من أجلها ستكون إسلاميّة، إلاّ أنّه أصيب بخيبة الأمل بعد خروجه من السجن، وانضمّ إلى (جمعيّة القيم) التي كان يترأسها الهاشمي التجاني، بعد الاستقلال، دون التخلي عن عضويته في حزب (جبهة التحرير الوطني).
واصل دراسته ونال شهادة الليسانس في الفلسفة، ثم الدكتوراه في علم النفس، وموضوع رسالته (التعليم الجزائري) و ودكتوراه دولة في التربية المقارنة من جامعة لندن، وموضوع أطروحته (مقارنة أنظمة التعليم الفرنسيّة والانجليزيّة والجزائريّة).
فارق جبهة التحرير وانتقدها بشدة، وندّد بممارستها في الحكم، وكان على علاقة جيّدة بجماعة (الإخوان المسلمين) وفكرها الإصلاحي، شديد الاقتناع بنظرات سيّد قطب في العمل الإسلامي، وطروحاته النظريّة، وآرائه السياسيّة ؛ فلما حكم على سيد قطب بالإعدام سنة 1386/1966 قاد مسيرة الإسلاميّين الجزائريّين الرافضة لهذا الحكم الجائر، وندّد بهذه الجريمة البشعة.
وضع في السجن (1982 ـ 1984) بعد المظاهرة الإسلاميّة الكبرى في الكليّة المركزيّة في الجزائر، في عهد الرئيس هواري بومدين بسبب جرأته، وإلحاحه في المطالبة بالإصلاح، واشتراكه في التوقيع على عريضة تدعو إلى وقف معاناة الشعب الجزائري، الذي لم ينعم بخيرات بلده، ولم يحصل على حريّته المسلوبة بعد الاستقلال، ووقف مع الشعب الذي تحدّى الحكومة في مظاهرات سنة 1408/1988.
آمن بالإسلام درعاً للشعب الجزائري، وسبيلاً لتقدّمه وتحريره من الفساد والانحراف، وأنّه لا سبيل إلى ذلك إلا بعودة الثورة الجزائرية إلى أصالتها، وأنّه لا بد من تصحيح مسارها.
واختار النموذج الإسلامي، ودعا إلى قيام دولة إسلاميّة جزائريّة تقوم على الشورى، وتطبيق أحكام الشريعة.
وصفه الأستاذ يوسف العظم بعد لقائه معه بقوله: كان غاية في الهدوء، وحسن الإصغاء، واللباقة في الحديث الموجز، وكأنّه يريد أن يسمع منك أكثر من أن يحدثك، ويأخذ منك أكثر مما يعطيك، وهذا شأن الرجل الحكيم.
خاض بنجاح الانتخابات البلديّة في 12يونيو 1990 وتقدّم إلى الأمّة ببرنامج إسلامي متكامل من الناحية السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، ونال تأييد الأمّة عندما حصلت (الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ) على أكثريّة ساحقة لأصوات الناخبين في الانتخابات التشريعيّة حزيران 1991 مما أهّلها لحكم البلاد على مبدأ تبادل السلطة في النظم الديمقراطيّة، بعد الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، إلاّ أنّ جنرالات الجيش الجزائري ضغطوا على الرئيس الشاذلي بن جديد فاستقال في مطلع 1412/ 1992، ووقّع على قرار حلّ المجلس الوطني الشعبي.
وحدث فراغ دستوري فقام المجلس الأعلى للأمن ـ الذي أعلن عن تنصيب نفسه مؤسّسة تشريعيّة ـ بإنشاء مجلس دولة أعلى، تولّى جميع صلاحيّات رئيس الدولة ؛ واضطر خليفته المعين محمد بو ضياف الذي استقدم من فرنسا، إلى وقف عمليّة الانتخابات، وإلغاء النتائج السابقة، وحل المجالس البلدية المنتخبة، وتحدّي الرأي العام الذي التفّ حول قادة الجبهة، وأنهى احتكار (جبهة التحرير الوطني) للسلطة بعد حكم دام ثمانية وعشرون عاماً، وفضح الحجم الحقيقي للأحزاب اليساريّة في الشارع الجزائري، وأفقد العلمانيّة الجزائريّة مصداقيّتها بعد التأييد الفرنسي المحموم لطروحاتها.
والتهبت البلاد بموجة من المظاهرات، والغضب الشعبي، وأعمال العنف، ودخلت البلاد الجزائريّة دوّامة الانحراف القمعي، وسقطت أعداد كبيرة من الضحايا في المواجهات الدامية، والقي القبض عليه وعلى رفيق نضاله الشيخ علي بلحاج، وقامت الأجهزة الجزائريّة باستصراخ النخبة العلمانيّة الفرنكفونيّة التي استخلفها المستعمر، لحماية النهب المنظّم لثروة الجزائر النفطيّة، ومواردها الزراعيّة ؛ واستمرّت أعمال العنف على مدى السنوات التالية، وسقط أكثر من مائة ألف من الضحايا في مسلسل دموي رهيب، وتوقفت عجلة النمو الاقتصادي الذي لم تسعفه القروض الأجنبيّة، وسقطت عدّة حكومات لم تعمّر طويلاً كان العسكر من ورائها، وأجرت انتخابات قاطعتها الجبهة سنة 1418/ 1997.
ووضعته حكومة الرئيس الأمين زروال في الإقامة الجبريّة، ثم أعيد إلى السجن حتى سنة 1424/2003، عندما انتهت مدة محكوميّته وقد هدّه المرض في نهاية عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فسافر إلى ماليزيا للعلاج، وأطلق من هناك مبادرته الشهيرة وقال: يجب علاج القضيّة الجزائريّة قبل أن ألقى وجه ربي.
وفي لقاء له مع مراسل قناة الجزيرة من كوالالمبور قال: كتب الله لي أن أخرج من السجن لأجد شعبي يعوم في نهر من الدم، وأوّل واجب علي أن أخرجه من أزمته، وأن أتعاون مع كل الصالحين لإخراج شعبي وبلادي مما هي فيه.
القضيّة الجزائريّة اليوم هي من القضايا المحوريّة في هذا العصر، وإذا خرجت الجزائر من أزمتها تحوّلت إلى عامل استقرار في المنطقة كلّها.
وأضاف قائلاً: هذه الأزمة تحتاج إلى مبادرة شاملة تشمل الشعب كلّه، ومن الخطأ الفادح اعتبارها مبادرة حزبيّة، إنّها مبادرة تاريخيّة، تفتح آمال الأحفاد والأجيال المقبلة، ولا يمكن أن تقتصر على حزب، وهي ذات بعد إجرائي، وتشمل السلطة لوقف نزيف الدم الذي هو شرط وجود، وشرط بقاء.
وليس في صالح أحد أن يعوم الشعب الجزائري في دمائه ؛ لم يبق جزائري مدني أو عسكري في الداخل والخارج له نصيب من العقل والضمير أن يرضى بأن يبقى الشعب الجزائري ينزف.
ولمّا سئل عن ترشيحه في الانتخابات الرئاسيّة الجزائريّة أجاب قائلاً: المرشّحون يتواطؤون في ظل قانون الطوارئ على قمع شعبهم، وعار على السياسي أن ينتخب تحت حالة الطوارئ.
أنا عار عليّ أن أتكلّم عن انتخابات غير مشروعة قبل أن يخرج الشعب الجزائري من سجنه.
لا إنتخاب تحت حالة الطوارئ، لأنّه زور، ولا بيعة لمكره.
لم يعد هناك مجال للتردّد، لم يبق وقت نضيّعه والدماء تسيل.
وقال: نحن قوم أهل شرع وشرعيّة، ولا بدّ من العودة إلى الشعب صاحب القرار والسيادة.
وتساءل قائلاً: أين هي دولة الشعب الجزائري؟ وأين الشعب الجزائري الحرّ؟ إنّه مقموع، وينبغي لأداة القمع أن تتوقّف.
متى يكون الذئب راعياً ؟ لا بد من العودة إلى الشرعيّة.
لا وسطيّة بين الحق والباطل، لا يستوي الخبيث والطيّب.
وأنكر تهمة الإرهاب التي ألصقتها أمريكا والسلطة بالإسلاميّين الجزائريّين وقال: نحن أصحاب قضيّة.
ودعا لإطلاق سراح رفيق جهاده الشيخ علي بلحاج فقال: على السلطة الجزائريّة أن تفسح المجال لحريّات الجميع، وأن تزيل الموانع في طريق هذا العبقريّ الشابّ (علي بلحاج) ليساهم في هذه المبادرة.
وحول الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ قال: إنّها حزب مشروع، بقيت قيادته وفيّة لله والرسول ولقضيّة الشعب، وهي لا تفرض نفسها على الأمّة.
وفي لقاء آخر له على قناة الجزيرة تحدّث بصراحة عن أزمة الجزائر فقال: الجزائر مهدّدة بعودة الاستعمار إذا لم تخرج من أزمتها.
واتهم النظام القائم بأنّه فعل بالشعب الجزائري ما لم يفعله الاستعمار.
وقال: النظام أوقف مشروع الثورة ؛ الشعب الآن يعاني من الجوع في بلد من أغنى بلدان المنطقة.
وتساءل قائلاً: بأي حق لا أتحدّث عن السياسة ؟ أنا لا أخشى أي ظالم، أخشى من الله فقط ؛ في كل بلاد العالم عندما تبحث عن صاحب القرار تجده، إسأل عن صاحب القرار في الجزائر إن وجدته.
لقد أخذت عهداً مع الله على إنقاذ الجزائر.
وتضمّنت مبادرته التي أطلقها من قطر دعوته الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى: إنهاء المحنة بوقف نزيف الدم بعد اثني عشر عاماً من الأزمة ؛ إصدار عفو رئاسي ؛ وإطلاق سراح المساجين ؛ وعودة المهجّرين ؛ ووضع حدّ للمظالم ؛ وإلغاء حالة الطوارئ ليتمكّن الشعب من بناء دولته الجديدة.
إلاّ أنّ القادة العسكريين والأمنيين الذين يتستّرون خلف جبهة التحرير الوطني، والرئيس بوتفليقة، فضّلوا المحافظة على مصالحهم ومزاياهم، حتى انفجر البركان الجزائري 2019.
ولم يشغله العمل السياسي والتنظيمي والدعوي عن كتابة العديد من الدراسات والأبحاث القيّمة في مجال التربية والفكر ومنها: مشاكل التربية في العالم الإسلامي) و(الأسرة ومشاكلها المعاصرة) و(أزمة الفكر المعاصر والبديل الإسلامي) و(مشكلات استمولوجيّة المعرفة التاريخيّة).
وواصل سعيه المحمود وقد هدّه المرض وما خلّفته سنوات السجن من آثار على جسده الضعيف، لإنهاء الأزمة الجزائريّة التي طال ليلها، والخروج من النفق المظلم الذي آلت إليه.
أقام بالعاصمة القطريّة بعد رحلة العلاج في عام 2003 حتّى وفاته في أحد مستشفيات الدوحة، يوم الأربعاء الموافق في 24/4/2019، وكانت أمنيته أن يدفن في الجزائر.
___________________________________________________________
(1) الجزائر إلى أين ص 13 مركز الدراسات والأبحاث لدار الكاتب العربي. الإسلام السياسي في الجزائر ص196 د. محمد ضريف. (3) مجلة فلسطين المسلمة حزيران 1995 مقال: رجال قياديون عرفتهم، عباسي مدني بين الجماهيرية والتنظيم، ليوسف العظم. (4) برنامج ضيف وحوار على قناة الجزيرة من كوالالمبور في 3/9/2003 أجراه أحمد منصور. (5) الإسلام السياسي ص 280 فرانسوا بورجا. (6) برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة في 12/11/2003 حاوره: أحمد منصور.