الجلاء الذي فقد معناه
قليل من أبناء جيلنا من بات يذكر شعراء عهد الاستقلال، ويترنّم بشعرهم الأصيل كلّما مرّت أعياد الجلاء في السابع عشر من نيسان كلّ عام، يوم كانت حناجرنا الصغيرة تتغنى بصوتها الطفولي برفقة المعلّم، فيذهب صداها بعيداً عبر نوافذ المدرسة المطلّة على أسواق المدينة، فلا يأتي العيد إلا والمدينة قد اكتست حلّة الجمال والبهاء.
كل أبناء جيلنا كانوا يحفظون قصائد الجلاء، عن ظهر قلب، لكثرة ما كانوا يردّدونها صباح مساء.
كم أنشدنا قصيدة الشاعر فخري البارودي، وحلمنا بهذا العالم العربي الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج، بعد رحيل المستعمر، حتى صدّقنا بأن بلاد العرب أوطاني، قبل أن نعيش أغراباً في بلاد العرب، ونركب زوارق الموت بحثاً عن الملاذ الآمن في فرنسا وأخواتها.
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا
ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا
بغسان وعدنان
كم تبارى شعراء العربيّة في وصف ملحمة الاستقلال، حتى أوحي إلينا بأنّ الجلاء يوم للفرح ونهاية لدرب الآلام، حتى قال قائلهم بدر الدين الحامد:
يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها لنا ابتهاج وللباغين إرغام
قبل أن نقتلع من ديارنا، ونقصف بالبراميل المتفجّرة، وأسلحة الدمار الشامل، عندما طالبنا بالحريّة كما كنّا نطالب في عهد الاستعمار.
في يوم الجلاء زفّ الحامد البشرى للشهيد يوسف العظمة، الراقد بكل كبرياء وشموخ على روابي ميسلون، بأنّ فرنسا رحلت ورحل معها الظلم وهضم الحقوق فقال:
يا راقداً في روابي ميسلون أفق
جلت فرنسا فما في الدار هضام
ولم يدر أنّ حقوقنا قد هضمت بعد الاستقلال، وديست كرامتنا، حتى طالت المعاناة وظنّ القانطون أنّ الله قد تخلّى عنّا.
ويذكّر الحامد منتشياً بفرحة الاستقلال الجنرال غورو بعبارته الشهيرة يوم دخل دمشق: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، بأن أبطال سوريّا محوا عار الهزيمة بالثأر لصلاح الدين.
لقد ثأرنا وألقينا السواد وإن
مرت على الليث أيام وأعوام
غورو يجيء صلاح الدين منتقما مهلا فدنياك أقدار وأيام
ومرت أيّام كأنها الحلم، لم يتذوّق السوريّون فيها طعم الاستقلال، ولم يقطفوا ثمرته،
ثم جاءت أيّام سود، استدعى الخونة ـالذين طالب أجدادهم ببقاء فرنساـ إلى ديارنا جيوش الاحتلال الروسي، والميليشيات الشيعيّة المتحالفة معه، لتحمي ظهورهم من غضبة الشعب الثائر لكرامته وحريّته، ليختبر الله فيها صبرنا، ويعلّمنا درساً كنّا قد نسيناه يوم ولينا علينا من لا يخاف الله ولا يرحمنا.
في يوم الجلاء سيعلّم السوريّون القوّات الغازية والمتحالفين معها درساً لم يتعلّموه في أفغانستان، وسيهزم الفرس مهما طال الزمان، كما هزم الصفويّون في (معركة جالديران) وسترفع الراية المحمّديّة في سماء دمشق كما رفعت في سماء تبريز.
وليطمئن السوريون ومعهم أحرار العالم أنّ فجر الاستقلال سيشرق من جديد مهما طال ليل الظلم والاستبداد، وأن شعبنا لن ينسى الشرفاء الأوفياء الذين وقفوا معه في محنته.
ويومها سيتحقّق الحلم، وتعم السكينة في ربوع الشام، وتعود الطيور المهاجرة ومعها المنفيّون، وتفتح أبواب السجون، وتزهر مع عودتهم الوردة الدمشقيّة، وشقائق النعمان، وتكلّل بوّبات البيوت بالياسمين، ويغرّد العندليب مع بدوي الجبل:
الورود الحمر ذكرى وهوى
وطيوف من جراح الشّهداء
أيّها الدنيا ارشفي من كأسنا
إنّ عطر الشام من عطر السماء
في ذلك اليوم سيستعيد السوريّون معنى الجلاء الذي فرّطوا فيه، وهم ينشدون قصيدة الشاعر الدمشقي شفيق جبري:
حلم على جنبات الشام أم عيد
لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العين والرايات خافقة
أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد
ملء العيون دموع من هناءتها
فالدمع در على الخدين منضود
طال الفراق يا شام واشتدّ الحنين، وبعد الطريق، وتداعت علينا الأمم، حتى انقطعت الآمال بالعودة إلى أحضانك الدافئة أيّتها الجميلة الجليلة، وليرحم الله الشاعر عمر أبو ريشة، فقد عبّر عن مشاعر السوريين في محنتهم بصدق وأصالة وهو يقول:
يا عروس المجد طال الملتقى بـعدما طـال جوى المغترب
فـدعوناكِ فـلم نـسمع سوى زفـرة مـن صـدرك المكتئب
قـد عـرفنا مـهرك الغالي فلم نـرخص الـمهر ولم نحتسب
وطوبى للغرباء رئيس التحرير
1/4/2020 محمد علي شاهين
الزيارات: 3418