تجار الحروب والربيع العربي
ارتبطت صورة تاجر الحرب الساخرة في الأدب العالمي بصورة التاجر اليهودي الذي يركب حماره ويراقب المعارك من بعيد ليشتري من المنتصر الغنائم والأسلاب بدراهم معدودة.
ففي ظل الفوضى الشاملة، وفساد الطبقة الحاكمة، وغياب الرقابة الشعبيّة على مفاصل الدولة، سادت قيم غريبة لا تعرف التسامح والقناعة والإيثار في مجتمعاتنا العربيّة، مبنيّة على الجشع والطمع والاستغلال، وتبدو هذه الصورة واضحة فاقعة الألوان في المثال السوري.
ويدخل ضمن هذه الدائرة الانتهازيّة دول وشركات عالميّة وقطاعات فاسدة من تجّار السلاح والوقود والطعام والدواء.
فقد استطاعت روسيا وإيران ابتزاز النظام واستغلال ضعفه، للحصول على قواعد بحريّة وموانئ نفطيّة، وقواعد جويّة مجانيّة، والحصول على حق التنقيب عن النفط في الأرخبيل السوري بشروط مجحفة بحق السوريين.
واستغلّت روسيا حاجة النظام إلى السلاح فباعت الأسلحة الفاسدة المنتهية الصلاحيّة والمحظورة دوليّاً بمبالغ خياليّة، محملة الأجيال السوريّة ديوناً وفوائد لا يعلم الا الله حجمها، والقادر على تسديدها.
وتداعى الإيرانيّون على شراء العقارات والأراضي والمصانع مستغلين ضعف الليرة السوريّة أمام الريال الإيراني، والتسهيلات الحكوميّة للحلفاء الفرس.
واستغل النظام السوري المصالحات الجارية بينه وبين أهالي المناطق المحاصرة، فاعتمد بعض الشخصيّات المقرّبة منه لتكون المصدر الوحيد لدخول المواد الاستهلاكيّة الضروريّة كالغذاء والدواء، إلى المناطق المحاصرة، ومنحهم الحماية، وسهّل لهم التحكّم بالسوق السوداء واحتكار السلع، ورفع أسعارها.
وانتهز النظام الفرصة ففرض على هذه المواد ضرائب ورسوم إضافيّة يعجز المواطن عن تأديتها في الأحوال العاديّة، فكيف يتمكن من دفعها في هذه الظروف الصعبة.
واضطرّت النساء لبيع حليّهن من الأساور والعقود الذهبيّة لشراء الضروري من الطعام والدواء، فبادر النظام بطبع فئات من العملات الورقيّة لا رصيد لها، لامتصاص المطروح في السوق السوداء من العملات الصعبة والمعادن النفيسة بسعر الورق الملوّن.
وكانت فرنسا قد سحبت الجنيه المصري الذي يعادل وزنه ذهباً من التداول داخل البلاد السوريّة خلال فترة انتدابها، واستبدلته بفئات من العملة الورقيّة كان بنك سوريّة ولبنان قد أصدرها في ذلك الحين.
ولم تسلم جوازات السفر من الرسوم الإضافيّة، فحكاية جواز السفر السوري باتت تؤرّق المواطن المسكين، وهو مضطر لتأمين جواز سفر له ولأفراد عائلته من إدارة الهجرة والجوازات في بلده للفرار إلى مخيّمات اللجوء في الدول المجاورة، أو الهجرة إلى بلد تأويه، وهو مضطر لتجديد جواز السفر بعد انتهاء صلاحية الجواز المحدّدة بسنتين أو أربع سنوات له ولأفراد عائلته، وهو مضطر بموجب القانون رقم 18 لدفع الرسم القنصلي عند منح أو تجديد جواز أو وثيقة السفر للسوريين الموجودين خارج سورية بشكل فوري ومستعجل بمبلغ 800 دولار أميركي، أو ما يعادلها باليورو، أما إذا كان منح أو تجديد الجواز ضمن نظام الدور، فإن الرسم القنصلي يبلغ 300 دولار، وغدت وزارة الخارجيّة السوريّة مصدراً للعملات الصعبة التي تحتاجها آلة الحرب المعلنة ضد الشعب السوري، والدجاجة التي تبيض ذهباً.
انظر إلى طابور المراجعين للسفارات السوريّة للحصول على الجوازات والوثائق، المصطفين في الشارع العام تحت المظلات البالية، بانتظار فتح باب قصر السفارة حيث يتنعّم ثلّة من الموظّفين البيروقراطيين بصالونات السفارة وأثاثها الوثير.
وقد وجد السماسرة في الجواز السوري مادة تجاريّة رائجة لا تقدّر بثمن، بسبب حرمان عدد كبير من السوريين من حقّهم المشروع في الحصول على جوازات بلدهم، جمعوا في سوقها المال الحرام، وتفنّنوا في تزييفها بإتقان.
لقد أدرك الشعب السوري ومعه أحرار العالم أنّ نظام الأسد لم يستوعب الدرس حتى الآن، وأنّه مصر على ابتكار مزيد من الإنجازات (القوميّة والوطنيّة) وفي مقدمتها جواز السفر والبراميل المتفجّرة.
وخلال الحرب المعلنة على المناطق الثائرة ارتكبت قوات النظام بالتحالف مع الجيش الروسي والإيراني مجازر مروّعة بحق المدنيين، وقام الشبيحة وما يسمى بالحرس الوطني، وعصابات حزب الله وميليشيات إيران والحشد الشعبي العراقي بنهب الدور والدكاكين، وساقوا المواشي، ونهبوا المتاحف لأنّها في نظرهم غنائم حرب.
هل سمعتم أيّها السادة بأسواق السنّة التي افتتحت في القرى العلويّة، ستجدون فيها كل ما تحتاجونه من الأجهزة الكهربائيّة والسجاد والثريّات والتحف، حتى حديد أسقف المنازل وشبابيك الحماية وأطقم الحمامات، ستجدونها في محلاّت شايلوك تاجر البندقيّة بسعر بخس.
واضطرت بعض الأسر التي لم يحالفها الحظ بالفرار من قصف الطيران السوري والروسي، إلى بيع ما تملكه من عقارات بسبب الضائقة الماليّة، حيث وجد السماسرة المتحالفون مع السلطة فرصة ثمينة لتملّك أرض أو شقّة أو مخزن تجاري في مواقع لا يحلمون بامتلاكها.
وفي أجواء الحرب والفوضى وجد ضعاف النفوس الفرصة المواتية للاتجار بالمخدّرات وترويجها، وتشكيل شبكات منظمة وواسعة لممارسة جميع أنواع التجارات المحظورة كتجارة الهيرويين.
واغتنمت شبكات التهريب موجات الهجرة السوريّة، فأخذت تلقي بأحمالها من البشر على شواطئ جزر اليونان وإيطاليا مستخدمة الزوارق المطاطيّة والقوارب الخشبيّة المتهالكة، وليس من المهم لدى شبكات تهريب البشر وصول هذه الحمولات إلى وجهة سفرها، أو غرقها في البحر ما دامت قد ملأت جيوبها بالمال الحرام، وحصلت مقدماً على ثمن ضحاياها.
ولا تكتفي شبكات تهريب البشر من ممارسة نشاطها الإجرامي في البحر، فقد وجد من المهرّبين من يسوق آلاف المهاجرين الفارّين عبر الحدود إلى حقول الألغام، والدروب الوعرة والغابات الكثيفة.
وكثيراً ما تتواطأ شبكات تهريب البشر مع الحكومات لتسليم المهاجرين، أو مع عصابات إجراميّة لسلب مدّخراتهم، وقتلهم بدم بارد.
وفي غياب الأخلاق والقيم وجد من ضعاف النفوس من يتجرّأ على الاتّجار بالبشر، بعد أن تجرّأ جنوده وميليشياته على اغتصاب الحرائر، مستغلاً حالة الفوضى وغياب الأمن والقانون، وحاجة المرأة إلى الحماية والنفقة، وخصوصاً تلك التي فقدت المعيل والأهل والوطن.
وبلغ الإجرام درجة لا يمكن وصفها، بعدد ممن غادر الإيمان قلبه للاتجار بالقطع البشريّة، فلا مانع لديهم من خطف الأطفال وانتزاع كلياتهم أو أكبادهم أو قرنيات عيونهم، وتصديرها عبر شبكات عالميّة تحت دعوى الرحمة والانسانيّة، والله بريء منهم.
لن ينسى الشعب السوري ومعه أحرار العالم القطط السمان من اللصوص والعيّارين الذين شربوا من الدم السوري، ونهشوا لحمه، واغتصبوا عرضه.
ولن تنسى بسهولة الوقائع المحفوظة بالصوت والصورة والمثبتة بالزمان والمكان والمحدّدة بالأسماء والصفات لكل من شارك في اضطهاد السوريين واستغلالهم وإطالة معاناتهم.
إنّهم يريدون لهذه الحرب أن تستمر تحت ستار الحرب على الإرهاب، ليواصلوا جرائم القتل والنهب والاغتصاب وسرقة المال العام بدم بارد.
يريدوننا أن ننسى كل ما جرى من ويلات لشعبنا، وأن يموت قاتلونا ومعذّبونا وسارقوا حقوقنا على فراشهم، فلا يحاكمون في محكمة الثورة، ولا يدفعون ثمن جرائمهم، ولا تسترد الأموال والممتلكات التي سلبوها قبل الربيع العربي وبعده، وتصبح القضيّة مقضيّة في اصطلاح الحقوقيين.
وطوبى للغرباء رئيس التحرير
1/11/2017 محمد علي شاهين