روسيا والحنين إلى الحقبة الاستعماريّة
مجلة الغرباء العدد 136
تحت دعوى إبعاد الخطر الإسلامي عن جمهوريّات آسيا الوسطى والقوقاز، تدخّلت روسيا عسكريّاً في أفغانستان، بدعوة من قائد انقلاب ربط مصيره بعجلة السوفييت، وفتح بوّابات بلاده للغزو الماركسي فكريّاً وسياسيّاً، وقام من جاء بعده بإحداث تغييرات واسعة النطاق في النظام الاجتماعي والاقتصادي، لم يستجب لها شعبه، ووقّع مع (بريجنيف) معاهدة صداقة غير متكافئة، جرّت على البلاد الويلات، ونفذ زبانية النظام الماركسي جرائم مروّعة بحق أبناء الشعب، وقتلوا وعذّبوا واضطهدوا شعباً شجاعاً مقداماً يأبى الضيم.
ولم يتوقّف الغزاة عن ارتكاب جرائمهم، حتى ثار الشعب الأفغاني على طغيانهم وجبروتهم، ولقنهم درساً لم يستوعبوا فصول مأساته، ولم يأخذوا العبر والدروس منه، بدليل احتلالهم للقرم وتدخلهم العسكري المباشر في سوريّة إلى جانب دولة الاستبداد، وانحيازهم لقوى الفساد.
وخرج الروس من أفغانستان يحملون الشوك الذي زرعوه، وعار الهزيمة التي تلطّخت بها جباههم، مخلّفين وراءهم مليون ونصف قتيل، وثلاثة ملايين مشرّد، وشعباً لم تلتئم جراحه حتى الآن.
وجاءت توابع هذا الزلزال شديدة التدمير، حتى ظنّ بعض الباحثين أنّها هي الزلزال الحقيقي، فشهد العالم انفجار تشرنوبل، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وانفصال دول بكاملها عن هذا الكيان، وتنفست الشعوب المسلمة الخاضعة للسوفييت الصعداء، بعد عهود من الاضطهاد والإبادة والتهجير، إلا أن الحنين للحقبة السوفييتيّة، وحب التسلّط والتوسّع لم يغادر أحلام كثير من رجال العهد البائد، الذين أشرب في قلوبهم الحقد والاستعلاء على الشعوب.
وعندما انهارت قوات الأسد أمام ضربات الثوّار، ومني نظامه البوليسي بسلسلة من الهزائم، واندحرت الميليشيات الشيعيّة الداعمة لنظامه، وفشل التدخّل الإيراني ومخطّطاته، حتى حزم بشار حقائبه استعداداً للرحيل عن البلاد التي اغتصب أبوه حكمها، وجعلها مزرعة لأسرته وطائفته، وأورثها ابنه مثل متاع الميّت، فجعل أعزّة أهلها أذلّة، ألقى بشار الورقة الأخيرة في يد روسيا، فتلقفها بوتين ـ الساعي للحصول على دور في الشرق الأوسط ـ دون تردّد، مرحباً بهذا العرض السخي، ملبياً استغاثة النظام الذي أكّد حقّه في طلب الدعم الخارجي، من خلال الشرعيّة التي منحته إيّاها الاستفتاءات المزيّفة والأرقام المفبركة التي كانت أحد أسباب ثورة الشعب السوري عليه!!
وأسبغت الكنيسة الشرقيّة بركتها على القيصر وعلى جنوده في حربهم المزعومة على الإرهاب، حتى صرّح رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة (فسيفولود تشابلن) قائلاً: "إن القتال ضد الإرهاب هو معركة مقدسة اليوم، وربما تكون بلادنا هي القوة الأنشط في العالم التي تقاتله".
وباسم الحرب على الإرهاب تمكنت موسكو من تأجيج القتال الدائر في سوريّة، وتأخير الانتقال السياسي، وانقضّت بأحدث أسلحتها على الشعب السوري، لا لأنّ الثوّار يشكّلون خطراً على حليفها الأسد، ولكن لأنّهم يمثّلون وعي الشعوب وصحوتها، ويشكّلون خطراً على أطماعها الاستعماريّة في المنطقة.
وادّعت روسيا بأنّها ستكتفي بالتدخّل الجوّي وتقديم النصائح والاستشارات لحليفها المفرّط باستقلال البلاد، منكرة وجود أهداف سياسيّة خفيّة، أو أطماع اقتصاديّة لتدخلها، تاركة حلفاء الأسد من العصابات الشيعيّة يغوصون في الأوحال السوريّة.
وسرعان ما أسفرت عن نواياها وأطماعها، فاستدعت خبراءها ومستشاريها وسفنها الحربيّة وبيوتها الجاهزة للإقامة الطويلة، وأخذت تعزّز تواجدها الدائم في شرق المتوسّط، بينما كانت أنظار العالم تتجه نحو الزوارق المطاطيّة الممزّقة، والجثث الطافية على سطح البحر، والموج يقذفها من كل مكان على شواطئ اليونان، وجزره المتناثرة أمام الشواطئ التركيّة.
ووجد الطيران الروسي في الأجواء السوريّة فضاءً رحباً لعربدة طائراته، وتجربة أسلحته، في غياب المضادات الأرضيّة، التي حرمت منها المعارضة المسلّحة منذ انطلاق ثورتها، خشية وصولها إلى أيدي الإرهابيين.
ولم يجد التدخّل العسكري الروسي تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، أيّة معارضة حقيقيّة من أصدقاء سوريّة، وكأنّ هناك تنسيقاً دوليّاً، وتقاسماً للأدوار على المسرح الدولي، أو تنفيذاً لفقرة سريّة في الاتفاق النووي الإيراني، للقضاء على الثورة، أو تقاسماً لمناطق النفوذ في المنطقة، أو إعادة تقسيمها، إذا أحسنّا الظن باللاعبين الكبار.
واكتفى أصدقاء سوريّة بإبداء القلق، والتنديد بجرائم الحرب، والتلويح بإحالة المجرمين إلى المحاكم الدوليّة، وجاءت تقارير المنظّمات الانسانيّة، تساوي بين الضحيّة والجلاّد، كلّما استخدم النظام الكيماوي والأسلحة المحظورة.
وجاءت سيّدة العالم على استحياء، بعد خمس سنوات من الثورة على النظام المدلّل، وقد كادت ألسنة لهيبها أن تشعل المنطقة، فتداولت المسألة السوريّة مع الدولة المحتلّة حليفة النظام، أثمرت عن مشروع خجول لوقف إطلاق النار.
وكانت أمريكا خلال تلك الفترة تنأى بنفسها عن النزاعات في الشرق الأوسط، ولا تنوي التدخّل في الشأن السوري حتى تفني الحرب الجميع، وتكتفي بعبارات التهديد والوعيد، وتحديد الخطوط الحمر.
فليس من المهم عند أمريكا الطريقة التي يقتل بها السوريون، ولا نوع سلاح الجريمة، فسواء عندها الموت بالكيماوي أو راجمات الصواريخ، أو الموت جوعاً.
وبينما كانت جوقة الجيش الأحمر المؤلّفة من 120 منشداً وراقصاً تقدّم عرضها على مسارح بيروت غير عابئة بعذابات السوريين، كانت روسيا تواصل إرهاب الدولة المحتلّة بغاراتها على المدنيين، واستهدافها للثوّار بقنابلها وحممها، وتشنّ الغارات على المدن والبلدات السوريّة، وتدمّر ما تبقّى من المنشآت الحيويّة والمدارس والمستشفيات، وتحيل بقنابلها الفراغيّة والعنقوديّة مدينة عامرة تنبض بالحيويّة والنشاط مثل حمص، إلى يباب.
فإذا نظرت إلى حمص كنموذج للمدينة السوريّة الثائرة، تذكرت العاصمة الشيشانيّة (غروزني) التي دمّرها بوريس يلتسن وشريكه بوتين، وأحالها إلى أنقاض بعد ثلاثة شهور من القتال في نهاية عام 1994، حتى ظنّ كلّ من رآها أنّ قنبلة نوويّة حقيقيّة أطلقت عليها.
ولا عجب أن ترى أحفاد الشيشانيين الذين ذاقوا طعم الموت في منافي سيبيريا (23 شباط 1944) بعد اثنين وسبعين عاماً، ينخرطون في القتال إلى جانب إخوانهم المجاهدين في بلاد الشام، لأنّهم أكثر فهماً لطبيعة الأنظمة المستبدّة الفاقدة للشرعيّة، وفهم داعميها.
وليس هناك من مشكلة عند أصدقاء سوريّة لو مات السوريّون على فراشهم كالبعير، أو ماتوا غيلة بمسدس الأنظمة، أو قصفاً بالطيران الروسي، أو جوعاً في مضايا والزبداني.
لقد أزعجناكم يا أصدقاء سوريّا، على مدى السنوات الخمس الماضية، وحرمناكم من لذّة الاستمتاع بدفء الفراش وسماع الموسيقى، وأنتم تشاهدون على شاشات الرائي بيوتنا المهدّمة وأشلاء قتلانا، ودماء جرحانا، وتسمعون بكاء أطفالنا وعويلهم، فواصلوا احتفالاتكم بعيد الحب، واستمتعوا بأحلامكم الورديّة.
وطوبى للغرباء رئيس التحرير
1/3/2016 محمد علي شاهين
الزيارات: 2634