آفاق العمل الإسلامي رؤية من الداخل
في زمن غربة الإسلام يصبح الحديث عن آفاق العمل الإسلامي ذا شجون، وخاصّة عندما يحاورك البعض حوار الطرشان، فيدّعون أنّ الاستعمار والصهيونيّة وتارة التبشير والماسونيّة، تقف دون تطوّر العمل الإسلامي، وبلوغه ذرى التقدّم والمجد، وكأنّ هؤلاء الأعداء الموهومين شياطين تسكن جلودهم، وتحول دون قيامهم بواجباتهم وحملهم أماناتهم، والنهوض بأمتهم.
ومع أنّنا لا ننكر دور الاستعمار والصهيونيّة والتبشير والماسونيّة في التآمر على العروبة والإسلام وهدم الخلافة، وتمزيق العالم الإسلامي، وفرض الطغم الانقلابيّة العسكريّة التي أنتجت الهزائم والنكسات، والاستبداد السياسي، والتخلّف الاقتصادي، ومنح النخب العلمانيّة الفرصة لتكريس التجزئة، وتوطين الفساد، وتفجير المجتمعات المسلمة من الداخل.
فإنّ إطلاق المارد الإسلامي في عمليّة البناء والتطوير والتحديث على كافّة الأصعدة هو الأصل في كلّ حركة إسلاميّة تحمل مشروعا نهضويّا، دون الالتفات إلى المصاعب والعقبات، ليصبح الإسلام حركة مجتمع رشيد، وثقافة شعب كريم، وتراث أمّة ماجدة.
وإن أكبر آفة يمكن أن تصيب الحركة الإسلاميّة ابتلاؤها بزعامات تعيش وهم المؤامرة، وإصابتها بقيادات وهميّة عاجزة عن استقطاب الكفاءات، واستيعاب الطاقات والمواهب، وتفعيل دور المتميّزين والمبدعين، والارتقاء بالنخب المنتمية سياسيّا وفكريّا واجتماعيّا، وفتح آفاق أرحب للعمل الفكري والدعوي والإعلامي.
ومما يحزّ في القلب أن ترى جماعات إسلاميّة مستسلمة للواقع السياسي الرديء، راضية بمبدأ الأمر الواقع، متعايشة مع الأنظمة الديكتاتوريّة المارقة، عندها من المبرّرات الكافية لتقديم التنازلات على حساب الثوابت الإسلاميّة.
وأن تكتفي بعض الحركات الإسلاميّة بالقبول بهامش ضئيل من العمل الاجتماعي، كرعاية الأيتام، والصم البكم، والمكفوفين، وترقيع المجتمع الجاهلي بمحاربة ظاهرة التسوّل، ومكافحة المخدّرات، وغير ذلك من الآفات الاجتماعيّة التي أفرزتها الأنظمة الاشتراكيّة العلمانيّة الشموليّة.
والأدهى من ذلك أنّ بعض القيادات الوهميّة المعمّرة لا تخطئ لأنّها لا تعمل، فهي في مأمن من القيل والقال، وتكتفي بالمواعظ، والحديث عن التقوى، وكأنّها لم تسمع قول الشاعر:
يا عابد الحرمين لو أدركتنا لعلمت أنّك بالعبادة تلعب
وينسحب على بعض الحركات الإسلاميّة اتكاؤها على فكر المؤسّس، وعكوفها على تراث آباء الحركة، والاكتفاء بالقديم على حساب التجديد والابداع.
فهي لم تدخل عالم النشر والصحافة والإذاعة والمسرح والسينما، ولا تريد أن تدخله، ولم تتطلّع إلى عالم الفضائيّات لتصل إلى قلوب الناس باللغة التي يفهمونها، وترى أنّ الصحافة والنشر والإعلام المسموع والمنظور، وجميع الفنون الأدبيّة من البدع والمستحدثات، أما السينما والمسرح فقلّ من يجرؤ على طرحها كأسلوب للدعوة في حضرتهم.
رحم الله الإمام الشهيد حسن البنّا فقد كان بحق مجدّد هذا القرن، وكان إعلاميّا متميّزا، وداعية مجدّدا في أسلوب الدعوة ووسائلها، اقتحم عالم الصحافة والنشر قبل سبعين عاما بجرأة، ولو أدرك عصر الفضائيّات لجعل إقامة قناة فضائيّة لجماعته وهي كبرى الجماعات الإسلاميّة، في مقدمة أولويّات العمل الإسلامي.
لكنّ المبدعين من أبناء الحركات الإسلاميّة الذين عجزت عن استيعابهم حركاتهم، استشعروا الواجب فارتقوا بإبداعاتهم، ولم يسقطوا في التخلّف الذي سقط فيه معاصروهم، وهكذا ارتقى نجيب الكيلاني في فنّ الرواية الإسلاميّة، وعلي أحمد باكثير في المسرح الإسلامي، وعبد الله الطنطاوي في تحرير مجلّة الطفل، ويوسف العظم ومحمد الحسناوي في نظم شعر الأطفال، وعبد الله العقيل، وأحمد الجدع في تراجم الإسلاميين، وغيرهم كثير، فلهم المجد والسؤدد.
وعلى الحركات الإسلاميّة التي تصدّت للعمل الإسلامي إعادة ترتيب الأولويّات، وتفعيل الجهد الجماعي والانطلاق من أدب الطفل، إلى أدب الشباب، إلى أدب المرأة، إلى قضايا العمّال والفلاحين، والدفاع عن حقوق الطبقات المسحوقة، والتصدي للقمع الفكري والفساد السياسي.
واقتحام فن الكتابة الصحفيّة والرسم والإخراج الفني، وولوج عالم الأنترنت، وإنتاج البرامج التلفزيونيّة المنسجمة مع الفكر الإسلامي النظيف، والضوابط الشرعيّة، واستخراج المواقف المضيئة من التاريخ الإسلامي، وإعادة تدوين سيرة الرجال العظام.
وتشجيع الكتّاب والمؤلّفين والمبدعين من أبناء الحركة الإسلاميّة، والاهتمام بالأعمال الفنيّة المتميّزة، من دراسات وقصّة ورواية وشعر، وتعزيز الدور الرائد الذي يمكن أن يقوموا به، ليستمرّ هؤلاء في العطاء، والأداء الفني الجميل.
ودعوة منتسبي الحركات الإسلاميّة لدخول عالم الكمبيوتر، والانتظام في دورات تدريبيّة، والحرص على اقتناء مكتبة إسلاميّة مهما قل حجمها، على العادة الحسنة للإخوان عندما أصبح الكتاب الإسلامي أكثر الكتب رواجا في المعارض العربيّة والدوليّة.
ومما يؤسف له أن نجد على خارطة الحركات الإسلاميّة قيادات لا تفسح المجال لغيرها، وتمارس الانتخابات على شاكلة حكوماتها، وتستخدم الأموال لخدمة أغراضها الشخصيّة، وتمنع التجوّل وتفرض قانون الطوارئ مثل الحكومات التي عارضتها.
ومن المحزن أن يدّعي رجال أمضوا في قيادة الحركة الإسلاميّة سنوات طويلة، لم يفسحوا فيها المجال لإخوانهم بالرأي والمشاركة، حرصهم على تجديد دماء الحركة الإسلاميّة، وكأنّهم يريدون القفز بالحركة إلى جيل آخر بعد استبعاد معاصريهم الذين جاؤا بهم.
وابتدعت بعض الحركات الإسلاميّة منح الأعضاء الحكميين مثل المراقبين العامين ورؤساء مجالس الشورى السابقين، حق المشاركة والتصويت في جميع المجالس التشريعيّة، مما شكّل كبحا لتطلّعات الجيل الجديد من أبناء الحركة.
أليس من الأجدى أن يتولّى قيادة العمل الإسلامي فريق عمل متجانس، ينتخب على أساس برنامج عمل واضح المعالم، ويخضع للمساءلة إذا عجز عن تنفيذ برنامجه، ويطلب منه الاستقالة إذا تنكّر لبرنامجه، أو أخلّ بمبادئ الحركة الإسلاميّة التي ينتمي إليها، أمّا أن يتولى القيادة مجموعة أفراد يدخلونها في سبات عميق، أو يوردونها موارد التهلكة دون رقابة أو محاسبة، فستكون النتائج على العمل الإسلامي ماحقة.
إنّ ترسيخ مبدأ الشورى وجعله ملزما، ومنح الهيئات التشريعيّة المنتخبة حق تعيين قيادات العمل الإسلامي التنفيذيّة وحق عزلها، ضمان لأي عمل إصلاحي جاد.
ومما يرثى له الخلط القائم بين النقد البنّاء للحركات الإسلاميّة، وبين مسألة تجريح الهيئات التي أوصى الإمام البنّا رحمه الله بالابتعاد عنها، حتى خشي المخلصون من الإدلاء بدلائهم في عمليّة التقييم، ولم يفرّق كثير من الإسلاميين بين الإخلاص والاختصاص، وبين الأخوّة وتقييم الأداء.
وأخيرا فلا بدّ من تضافر الجهود لإعادة الفرز والتقييم، وحل كافّة الإشكالات والتناقضات، وتبادل الخبرات، وأن تكتب دراسات مستفيضة عن الحركات الإسلاميّة، وأخرى مقارنة، وأن يشمل التعاون والتعارف جميع العاملين المخلصين، وتلتقي على الحب في الله كل جهود المخلصين.
وطوبى للغرباء
1/8/2005
الزيارات: 1261