الاعتذار للمسلمين عن الحروب الصليبيّة أم عن احتلال العراق !

نشر بتاريخ: السبت، 01 تشرين1/أكتوير 2005 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

اهتزّ وجدان العالم بعد احتلال العراق، وارتعد في أعقاب تفجيرات مدريد ولندن، وشعر رؤساء الديانة المسيحيّة والإسلاميّة بأهميّة الوفاق والتصالح والحوار، وأدرك العقلاء والصالحون أنّه آن الأوان لإزالة سوء الفهم بين المسلمين والمسيحيين. 

فكانت مبادرة الكنيسة الأنكليكانيّة الخيّرة للاعتذار للمسلمين عن احتلال العراق وما لحق بشعبه من قتل وتشريد، وما لحق بأرضه من تخريب وتدمير. 

لأن الحكومة البريطانيّة خاضت مع أمريكا حربا لا مبرّر لها من شرع أو قانون، ولا يملك رئيس وزرائها (بلير) من مسوّغاتها سوى الادعاء بأنّه خلّص العالم من نظام سيّء، أمّا أسلحة الدمار الشامل فدعوى لا أساس لها، وكل ما يقال بأنّه كان ضحيّة لتقارير صحفيّة مضلّلة. 

ليس بين المسلمين والنصارى بجميع كنائسهم في العالم الإسلامي، بما فيها الكنيسة الأنكليكانيّة، مشكلة أو ثأر تاريخي، فلقد احتضن العالم الإسلامي النصارى الهاربين من جحيم الصراع المذهبي في الغرب خلال القرون الوسطى، وكان الملجأ الوحيد لليهود الناجين من بطش محاكم التفتيش في اسبانيا، وفي ظل الإسلام توسّع النصارى في بناء الكنائس، والبيع، ودور العبادة وانتشرت الحياة النسكيّة في ديار المسلمين، ونعموا بحريّة التفكير الديني، حتى أنّهم كانوا يحتكمون للخليفة في مسائلهم الدينيّة، ويتمتّعون بالحماية من بعضهم البعض، وكان صدر دمشق يتسع لعقد المناقشات الدينيّة بين المذاهب المسيحيّة، أو بين رجال الدين النصارى وعلماء المسلمين، وسمحت الشريعة للمسلم بالزواج من الكتابيّة، دون تغيير دينها، وبسبب هذه السياسة الحكيمة تجاه أهل الأديان وجدنا معظم نصارى الشام يقفون إلى جانب العرب المسلمين ضد الغزو الصليبي (1126 1272)م وبسبب طبيعة العلاقات بين المسلمين والنصارى وتسامحهم استعان الصليبيّون بالأطباء المسلمين لعلاج جرحاهم، وتمتّع النصارى واليهود بالحريّة الدينيّة والأمان في المدن السوريّة.

ولم يكن كل النصارى في الماضي مجمعون على الحروب الصليبيّة، ففي عصر النهضة نزع المتنوّرون عن الحروب الصليبيّة مجدها وبهاءها، ورأوا فيها وليدا مسخا فظيعا للقرون الوسطى السخيفة والجاهلة، ووسم (روسو) و(فولتير) و(روبرتسون) بالعار أفعال الصليبيين، وندّدوا بوحشيتهم واعتبروا حروبهم نتيجة لتعكّر الذهن بنشوة الدين، وسخروا سخرا مرا من تاريخها، كذلك نعت (هرذر) الحملات الصليبيّة بالحملات الطائشة، وجادل وعارض الثمار الإيجابيّة التي كان ينسبها المؤلّفون الكاثوليك آنذاك إليها، وكان يعتبر أنّ الجنون الصليبي (كلّف أوروبا من الأموال ومن الأرواح البشريّة ما لا عدّ له).*

حتى فرسان الحروب الصليبيّة لم يكونوا مجمعين على تبريرها، وقد عبّر الشاعر المغني الجوّال الفرنسي (ريمون جوردان) بخارق البلاغة عن الموقف السلبي المتعاظم في أوساط الفرسان من الحملات الصليبيّة، فقال في إحدى قصائده: إنّه يفضّل ليلة مع حبيبته على جميع أطايب الجنّة التي يوعد بها المشترك في حملة صليبيّة. 

الوثيقة الصادرة عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني عام 1964، برأت اليهود من دم المسيح كبراءة الذئب من دم يعقوب، حيث جاء فيها: (ولئن كان ذوو السلطة والأتباع من اليهود عملوا على قتل المسيح إلا أن ما اقترف إبان الآلام والصلب لا يمكن أن ننسبه في غير تمييز إلى جميع اليهود الذين عاشوا آنذاك ولا إلى اليهود المعاصرين لنا) وليس في هذه الوثيقة ما يزعج المسلمين لأنّ الله برأهم في محكم كتابه قبل أربعة عشر قرنا بقوله: (وما قتلوه ولا صلبوه ولكن شبه لهم به).

واعتذرت الكنيسة للأفارقة عن الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، واعتذر البابا يوحنا بولس الثاني لليهود عن (الهولوكوست) فليعتذر من يعتذر وليضع (الماريوكا) على رأسه.

ولكن أحدا من آباء الكنيسة لم يعتذر للمسلمين عن الحروب الصليبيّة في الماضي، ولم يعتذروا لهم عن تدمير الإمبراطوريّة الإسلاميّة في الهند، ولا عن تمزيق الخلافة العثمانيّة الإسلاميّة في مطلع القرن الماضي، ولا عن محاولات الامتلاك الدائم للشمال الأفريقي، ولم يعتذروا للمسلمين عن تدمير المشروع الإسلامي القومي، ولا عن دورهم في تقسيم العالم العربي، ولم يعتذروا للمسلمين عن وعد (بلفور) وتمكين إسرائيل بعد الانسحاب البريطاني، ولا عن الويلات والفواجع التي تمخّضت عن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولا حجم المأساة والكارثة التي ألحقوها بشعب لا يزال يقاوم ويتحدى الفناء.

لم يعتذروا للمسلمين عن تمكين ودعم الأنظمة الفاشيّة والانقلابات العسكريّة في العالم الإسلامي والتعامل معها على أنّها أنظمة سويّة، وسكتوا عن جرائم انتهاكات حقوق الإنسان، ونهبوا ثروات الشعوب كلّ هذه السنين الطوال بالتواطؤ، أما الحديث عن القبور الجماعيّة التي كانوا شهود زور عليها في البوسنة والهرسك وكوسوفو وتدمر فممنوع ومسكوت عنه.

إنّ إزالة سوء الفهم بين المسلمين والنصارى، وامتصاص حدّة التوتّر والاحتقان بينهما، أمر في غاية الأهميّة، خاصّة وأن الاحتلال لم يكن باسم الدين ولم يباركه الرب.

وإنّ الشعوب المسلمة تتطلّع لإنصافها لا إلى الاعتذار إليها بمعسول الكلام، لأن من يجب الاعتذار إليهم قتلوا ظلما في حروب طاحنة، وفتن ماحقة، وسجون عاتية، وأنّ ملايين المشرّدين البائسين الجائعين سكان الخيام والكهوف في الشتات، والقابعين في المعتقلات يتطلّعون إلى شريعة عيسى في الحب وشريعة محمد في العدالة، لأنّهما السبيل الوحيد للخلاص.

وطوبى للغرباء 

1/10/2005 

الزيارات: 1221