خديعة المصالحة في سوريّة
تواصل الدعم الخارجي الإيراني والروسي للنظام بالرجال والسلاح، واحتشد الشيعة، واصطفّت النصيريّة خلف النظام بكل عشائرها وتناقضاتها، ولم تلتزم الأقليّات السوريّة بالحياد، وتخلّى عن الثورة الأشقّاء خشية اتهامهم بتشجيع الإرهاب، وحرمت أمريكا الثورة من الأسلحة النوعيّة، وأدارت ظهرها للسوريين، وسلّحت الانفصاليين الأكراد، واكتفى أصدقاء سوريّة ببيانات الشجب والتنديد، وفشل وسطاء الأمم المتحدة الواحد تلو الآخر.
وكان الفيتو الروسي الصيني سيفاً مسلّطاً على رقاب السوريين، استطاع النظام من خلاله مواصلة انتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع، واستخدام الأسلحة المحرّمة دوليّاً بما فيها الأسلحة الكيماويّة، وتعطيل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
وتنكّر المجتمع الدولي لمأساة الشعب السوري ومعاناته، واكتفت هيئات الإغاثة بتقديم الخيام والبطانيات، وما يسدّ الرمق من الطعام، ووجد الإعلام في القضيّة السوريّة مادّة دسمة ومثيرة، يتلهّى الناس بها بعد أخبار الرياضة.
وفي غياب قيادة موحّدة لفصائل المعارضة الوطنيّة، اندست عناصر مشبوهة لم تتوقف منذ اليوم الأوّل للثورة عن بذر الفتنة والشقاق والفوضى والانقسام، وسل خنجر الغدر في جسد الثورة المثقل بالجراح.
وابتكر دهاقنة الاحتلال الروسي المنحاز للنظام خديعة المصالحات الوطنيّة، ومناطق خفض التوتّر، ليظهر بمظهر الوسيط المحايد بين النظام والمعارضة، مستغلاً حاجة السوريين إلى الأمن والأمان والحصول على أدنى مقوّمات الحياة.
فكان النظام يمهّد لمصالحاته بضرب الحصار حول المناطق المشمولة بالاتفاق، وقطع طرق الإمداد بما فيها المساعدات الدوليّة الشحيحة، ثم يرميها بصواريخه وحمم قذائفه، مستهدفاً بيوت المواطنين الآمنين، والمرافق العامّة، فلم تسلم المخابز وبيوت الله والمدارس والمستشفيات، من قصفه وتدميره، حتى يئس المواطن المسكين، وهو يصارع الجوع والمرض، ويشعر بالإحباط وتخلّي العالم عنه، ثم يرسل أعوانه ومرتزقته فيدغدغون عواطف البسطاء بالكلام المعثول، ويعدونهم بالخلاص والعفو والمصالحة، إذا قبلوا بشروطه.
ثم تبدأ العملية التفاوضية بين ممثلي النظام الماكر، وبعض الزعماء المحليين الذين لا يمثّلون إلا أنفسهم، على وقف إطلاق النار والقصف الروسي مقابل استعادة النظام السيطرة على المناطق التي خسرها في وقت سابق، وإدارتها بشكل حصري عبر مؤسساته، بالتزامن مع تسوية وضع الأهالي، عبر عمليات تسوية فردية يتولاها أمن النظام، ومنح سكان تلك المناطق الإذن بالعودة لمنازلهم، وإعادة تجنيد أبنائهم، ونقل الرافضين لهكذا تسوية مع أسلحتهم الخفيفة وأسرهم إلى مخيّمات مناطق المعارضة.
كل المصالحات التي جرت في المناطق السوريّة لم تناقش فيها الأسباب التي فجّرت الثورة، وكان من البديهي أن يتبنّى القائمون على مشروع المصالحة تهيئة الظروف المواتية للمصالحة الوطنيّة، بتهدئة الخواطر، ووقف حملات الإعلام، وإبعاد الميليشيات الأجنبيّة عن الساحة السوريّة ومنعها من التدخّل في الشأن السوري الداخلي، وتقديم تنازلات سياسيّة من قبل النظام للشعب، والاعتراف بحقوقه المشروعة، والقيام بإصلاحات تشريعيّة وقانونيّة لا تحتمل التأخير، وفرض حكم القانون على الجميع، والإفراج عن المعتقلين، وعودة المبعدين، والإعلان عن قوائم الضحايا، وإصدار عفو عام عن المعارضين السياسيين، وإلغاء القانون 49 لعام 1980، وإعادة الأملاك المصادرة لأصحابها، وكف أيدي العابثين بأمن المجتمع، وتطهير الجيش والمؤسّسات الأمنيّة والقضائيّة من القتلة، والضرب على أيدي الفاسدين والمرتشين وسارقي قوت الشعب، وتجّار الحرب، وإنهاء أسطورة الرئيس الملهم، وطائفة الرئيس، وعائلة الرئيس، والحزب القائد، والجيش العقائدي، والجبهة الوطنيّة التقدميّة، وبناء جيش وطني، وإدماج الفصائل الوطنيّة في الجيش والشرطة والأمن، ووضع حد لتزييف إرادة الشعب بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، ومعالجة الجرحى والمعوّقين على نفقة الدولة، وكفالة الأيتام والأرامل، وإعادة توطين اللاجئين السوريين في مدنهم وقراهم، والتعويض على المتضرّرين.
لم تناقش في مفاوضات الخديعة أيّة مسألة من هذه القضايا لأن النظام وميليشيات إيران وجيش الاحتلال الروسي يعتقدون أنّ باستطاعتهم خداع الشعب السوري بهذه الطريقة البدائيّة المتخلّفة، وإخضاعه للحل الأمني، وإعادته لحكم الأقليّة، وإجراء تغيير ديمغرافي يضمن له الأكثريّة في أيّة انتخابات قادمة، بإحلال مستوطنين شيعة قادمين من وراء الحدود في أحياء المدن المدمّرة، والقرى والأرياف السوريّة التي نقل سكانها بالباصات الخضراء إلى المناطق الخاضعة للمعارضة، مكافأة لهم على قتل السوريين.
وأنّه بتهجير النساء والأطفال والعجزة من بيوتهم بعد حصارهم وتجويعهم، وقطع الماء والكهرباء عن دورهم، إلى مناطق المعارضة في ادلب وغيرها، وإلقائهم في البريّة تحت رحمة المنظمات الدوليّة كالمتسوّلين، باسم المصالحة وتخفيف مناطق التوتّر، سيعزّز أمنه واستقرار حكمه في البلاد.
ويخطئ من يعتقد بأن الشعب السوري سوف ينسى عذاباته بسهولة، وأنّه سيسكت عن انتهاكات حقوقه الإنسانيّة والسياسيّة بعد ثورة الكرامة، ويرضى بتهجيره تحت أية ذريعة من الذرائع.
وسفيه تافه (رويبضة) من يعتقد أن الشعب السوري سيعود إلى بيت الطاعة الأسدي، ليقبّل البسطار العسكري كما اقترح أحد أعمدة النظام.
وإذا كانت النيّة مبيّتة لتجميع فصائل المعارضة الوطنيّة لنظام الأسد بسلاحها الخفيف في محافظة إدلب، ثم الانقضاض عليها بالتواطؤ مع حلفائه بالأسلحة الثقيلة وقذائف الكيماوي والطيران، لسحقها بالضربة القاضية تحت دعوى بسط سلطة الدولة وفرض القانون على مناطق تخفيف التوتّر والمصالحة، فستكون العمليّة آخر سهم في جعبة النظام.
وغبي جداً إذا اعتقد بأنّه سيضمن استمراره، وإعادة منظومة حكمه من خلال مفاوضات منصّات اصطنعها (منصّة موسكو والقاهرة وحميميم)، وشخصيّات انتهازيّة معروفة بولائها للاستبداد، فقدت المصداقيّة ولم تكن في يوم من الأيّام مع الوطن، وأخرى قفزت من قارب النظام للعب دور مشبوه أعدّ لها، وكأنّ الشعب السوري الذي عمّد ثورته بالدماء، وقدّم نصف مليون شهيد على مذبح الحريّة، سيتخلّى عن ثورته بهذه السذاجة.
وطوبى للغرباء رئيس التحرير
1/9/2017 محمد علي شاهين