دروس الماضي والحاضر
تفاقمت أوضاع الدولة العثمانيّة عشيّة اندلاع الحرب العالميّة الأولى (1914 ـ 1918)، التي شكّلت لحظة انعطاف في تاريخ البشريّة، وكان على الانقلابييين من (حزب الاتحاد والترقي) الذين أقحموا الدولة في حرب خاسرة، أن يضمّدوا جراح العرب الذين ساهموا في الدفاع عن دولة الخلافة ب 300 ألف مقاتل، سقط منهم الآلاف على جبهات القتال في أوروبا، ونال ديارهم الخراب والدمار، وانتقلت إدارة بلادهم إلى المنتصرين.
ووفقاً لمصالح الغرب شكّل المنتصرون في الحرب (بريطانيا وفرنسا وروسيا) خارطة المشرق العربي الحاليّة، وجاءت مقرّرات (معاهدة سان ريمو) 5 أيار 1920، و(معاهدة سيفر) 10 آب 1920، لتكرّس ما اتفق عليه سراً في (سايكس بيكو 1916)، و(وعد بلفور 1917).
وما أن استقرّت هذه التقسيمات على الأرض، ورفعت أعلامها وراياتها الوطنيّة، وفرحت باستقلالها، وطربت لأناشيدها الوطنيّة، حتى سلّمها الغرب إلى حفنة من أتباعه المخلصين الذين رباهم على عينيه، ومنحهم الألقاب والمال، وسماهم قادة الحركة الوطنيّة كذباً وزوراً، ووضع في عهدتهم جيوشاً من الأقليّات، مثل جيش الشرق الفرنسي الذي كانت الأقليّة العلويّة التي تمثّل 9% من الشعب السوري تشكّل 90% من عدده.
وسلّمت انجلترا المنتدبة فلسطين لليهود، تاركةً فيها حدوداً ملتهبة مع جيرانها العرب، وقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في كل حين، وشعباً مشرّداً فقد أرضه ودياره، كما فعلت بعد تقسيم القارّة الهنديّة في كشمير.
واستدار المستعمرون نحو بلادهم بعد هذه المهمة القذرة، لينشغلوا بتنمية اقتصادهم وبرامجهم الاجتماعيّة والصحيّة والتعليميّة والعمرانيّة، والارتقاء بالصناعة والزراعة والآداب والفنون، تاركين إدارة الصراع في بلادنا لحفنة من السفراء والمعتمدبن.
ومضت عهود على تسلّم النخب العلمانيّة والقوميّة والطائفيّة مقاليد الأمور في بعض الدول العربيّة، ذاق المواطن الشريف فيها طعم العلقم، حتّى ترحّم الناس على أيّام الاستعمار، وخابت آمالهم، وقذف الناس بأنفسهم وأطفالهم في البحر طلباً للهجرة نحو المجهول، نأياً بأنفسهم عن الفتنة، حتى رست جثث الأطفال على الشواطئ وأعماق البحار، وبلغت قوافل المهاجرين أقصى المعمورة طلباً للأمن والأمان.
وكانت الخلافات والمؤامرات الشغل الشاغل للحكومات العربيّة عن واجباتها تجاه شعوبها المغيّبة، وإن نظرة فاحصة في محاضر الجامعة العربيّة التي أنشأتها بريطانيا لتكون البديل عن الوحدة الحقيقيّة، تجعل الحليم حيراناً فيما آلت إليه هذه الدول من تفكّك وانقسام.
بينما كانت الأنظمة الانقلابيّة تستنذف أكثر من نصف الميزانيّة العامّة للدولة استعداداً لمواجهة العدو الصهيوني كذباً وزوراً، وتستنذف الباقي في حماية نفسها من الشعوب التي سرقتها، وتتحوّل إلى وحش كاسر يقتل شعبه إذا طالب بالحريّة والانعتاق، وتستدعي العصابات الطائفيّة الشيعيّة من الآفاق لحماية نفسها من غضبة الشعب، وتطلب النجدة من روسيا ذات الماضي الاستعماري العريق في القوقاز والقرم واضطهاد الشعوب المسلمة، والتي شاركت في (تقسيمات سايكس بيكو) قبل الثورة البلشفيّة 1917، وتمنحها الموانئ والمطارات مجّاناً، وترهن اقتصادها لها، كما هو الحال في سوريّة الآن.
لم نر موقفاً دوليّاً جاداً حتى الآن يعير قضايا العالم العربي أيّة أهميّة، على عظم الخراب والدمار الذي حلّ بها، مادامت إسرائيل تصول وتجول وتعربد في المنطقة العربيّة وتتطلّع لتوسيع حدودها، وتتهيّأ لاستقبال المزيد من المهاجرين ببناء مستعمرات جديدة وتحويل المستعمرات القديمة إلى مدن كبيرة، وتنمّي قدراتها الدفاعيّة والاقتصاديّة، حتى باتت دول الخليج تتنافس على التحالف معها.
فقدنا أدعياء صداقتنا الذين تظاهروا بنجدتنا وحمايتنا، واكتفوا بالبيانات والشجب والبكاء على أطلال مدننا المهدّمة، وحقوق الإنسان مدى سنوات الحرب الثمانية، وفقدنا إخواننا الذين اكتفوا بصلاة الغائب على شهدائنا وهم قاعدون عن نصرتنا، وكأنّ النار لن تطالهم في الدنيا والآخرة.
لكن أحرار العرب الرافضين لتقسيمات وإملاءات الاستعمارين الغربي والشرقي، الثائرين على بائعي الجولان، والساحل السوري، وعلى كل من يفرّط بحقوق العرب عامّة والسوريين خاصّة، السائرين على درب الشهادة والتحرير، لن ينخدعوا مرّة أخرى، ولن يحنوا هاماتهم إلا لخالقهم، وسيبقوا شوكة في حلق كل عتل جبار متكبّر.
لندن في 1/7/2019 رئيس التحرير
وطوبى للغرباء محمد علي شاهين