اشكاليّة الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي

نشر بتاريخ: الثلاثاء، 02 آب/أغسطس 2016 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

سقطت الامبراطوريّة الإسلاميّة المغوليّة بعد أكثر من ثلاثة قرون (1526 1858) على إنشائها، وأصبحت الملكة فكتوريا امبراطورة الهند، وفي ظل التاج البريطاني نشأت القاديانيّة والأحمديّة، لإفساد عقيدة المسلمين وتوهينهم، ونسخ الجهاد، وصرفهم عن محبّة العرب، وقال دعيّهم: "أنا متأكد من أن أتباعي كلما زاد عددهم قل عدد القائلين بالجهاد المزعوم، لأن الإيمان بي كمسيح ومهدي معناه رفض ذلك الجهاد"، وأمرهم بالبعد عن السياسة ليكون الحكم والتشريع خالصاً للمستعمرين.

وتآمر الشرق والغرب على هدم الخلافة العثمانيّة بعد أكثر من ستّة قرون على قيامها (1299 1923)، وفرضت الدولة العلمانيّة فرضاً، وأجبرت الشعوب المنضوية تحت هلالها على القبول بها إجباراً، ويومها وقف أتاتورك في افتتاح جلسة البرلمان التركي يقول: "نحن الآن في القرن العشرين لا نستطيع أن نسير وراء كتاب تشريع يبحث عن التين والزيتون" (القرآن الكريم) معلناً وقف العمل بالشريعة، وفصل الدين عن الدولة.

وقام نفر من العملاء المهزومين المتشبّعين بالثقافة الغربيّة بالترويج لبدعة فصل الدين عن السياسة في العالم الإسلامي، وأقرّت دساتير تمنع الأحزاب الدينية من دخول المعترك السياسي، لإثبات إخلاصهم واستسلامهم للغرب بينما كانت الأحزاب المسيحيّة تحكم دولاً أوروبيّة عديدة.

 

إلا أن نفراً من المخلصين في العالم الإسلامي تمسّك بحقائق الدين، وأنكر منطق الهزيمة، ورفض هيمنة المستعمرين على مقدّرات العالم الإسلامي، وقاد حركة الجهاد ضدّ الغاصبين، وضرب المثل في التفاني بحب الأوطان، وطالب باستقلالها ووحدة أرضها، وردّ الحقوق إليها. 

ففي الهند رفض المفكّر الإسلامي أبو الكلام آزاد فصل الدين عن السياسة، ورأى أن على المسلمين أن يفهموا دينهم فهما صحيحا حتى يعينهم على التخلص من الاستعمار، وقال: "إنه ليس هناك ما هو أدعى للخزي والمهانة من أن يحني المسلمون رؤوسهم أمام أفكار غيرهم السياسية، إن الإسلام لا يسمح لهم أن يكونوا ذيلا لغيرهم في أفكارهم، بل عليهم أن يدعوا غيرهم إلى مشاركتهم واتباعهم، ولو أنهم خفضوا رؤوسهم لله تعالى لخفض العالم رأسه أمامهم".

ورأى محمد إقبال أن الإسلام ليس عقيدة فقط، أو شكلا من أشكال العبادة، بل هو فلسفة حياة، ونظام شامل، وهو حقيقة واحدة لا تقبل التجزئة أو التحليل، ومع ذلك فمن الضروري أن تتوحد الدولة والدين والأخلاق والسياسة في وحي شامل هو الإسلام، وأن مهمة الإنسان الأساسية في الحياة هي: أن يكون خليفة الله في الأرض".

ورأى الإمام الشهيد حسن البنّا "أن الدولة الإسلامية هي صاحبة دعوة ورسالة، وأن الفصل بين الدين والدولة خطيئة كبرى، وأنّه لابدّ من قيام حكومة إسلاميّة تقوم على القواعد التالية: مسؤوليّة الحاكم أمام الله من ناحية، وأمام البشر من ناحية أخرى، ووحدة الأمّة في إطار الأخوّة، واحترام إرادة الأمّة".

ودعا الإمام الملوك والحكام إلى تطبيق الشريعة الإسلاميّة في شؤون الحياة سنة 1366/1948، وبشّر بالدولة الإسلاميّة في صورة الخلافة، وقال: إذا لم تقم الحكومة الإسلاميّة فإن جميع المسلمين آثمون ؛ وجمع أتباعه على المحبّة والإخاء، وربّاهم على الإيمان بالدعوة، والتجرد لها، والاستعداد التام لكل ما يلقونه في سبيلها، وأعاد فكرة شموليّة الإسلام، وضرورة تطبيقه كمنهج حياة، والولاء الكامل للإسلام، والإخاء الإسلامي، وأحدث تياراً بارزاً إسلامياً في المجتمع، وحارب بصدق مظاهر الانحلال الخلقي، وجميع مظاهر الاغتراب في المجتمع، وكان يضع أمام أتباعه هدفين الأوّل: تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي. والثاني: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلاميّة حرّة.

وهكذا آمن أبناء الحركة الإسلاميّة بأنّ الإسلام والسياسة لا ينفصلان، وأنّ فصلهما كفصل الرأس عن الجسد، وأصبح هذا التصوّر من بديهيّات العمل الإسلامي.

واستطاع المحتل أن يستغل التصوّف البدعي، والخلافات الفقهيّة الطفيفة لخدمة أغراضه، حتى أنّ الانجليز جنّدوا المتصوّفة والسيخ للقضاء على دولة أحمد بن عرفان الشهيد التي أقامها على منهاج الخلافة الراشدة، في الشمال الغربي للهند تحت ذريعة محاربة الوهابيّة.

ورفضت بعض الطرق الصوفيّة في شمال إفريقيا الجهاد ضدّ الفرنسيين، مدّعية بأنّ روح التصوّف تأبى التدخل في السياسة، فقام الأمير عبد القادر الجزائري بمحاربة شيوخ الطريقة التيجانيّة الذين قدمّوا للفرنسيين خدمات جليلة في الجزائر والمغرب، ورفضوا الانخراط في جيشه لقتال الفرنسيين، وحمل على مركز التيجانيّة في (عين ماضي) عدّة حملات عسكريّة. 

ويومها أخذت الأمّة تترنّح بين تيار يحمل راية الجهاد لتحرير الأوطان وتحكيم الشريعة من جهة، وتيّار مزيّف عميل يدّعي الزهد ويستسلم للمحتلين من جهة أخرى.

واكتفت الحركات الإصلاحيّة في تلك المرحلة بالتمسّك بالثوابت الدينيّة والوطنيّة، وحماية العقيدة ولغة القرآن، وقيادة حركات التحرّر الوطني، وردّ الزائغين والمتردّدين إلى جادّة الصواب، وأحسن قادتها الظن بقادة الأحزاب الوطنيّة الذين تولّوا مفاوضات الاستقلال، فسلّموهم رايات النصر والبندقيّة، وخدعت الشعوب بهم وظنّت أنّهم صانعو الاستقلال، فأوصلونا إلى ما وصلنا إليه.

وتوارى المجاهد عبد الحميد بن باديس، والعلاّمة البشير الإبراهيمي وغيرهما عن المشهد السياسي، ليتسلّم الحكم في بلد المليون شهيد جنرالات أمضوا شبابهم في خدمة الجيش الفرنسي قبل التحاقهم بالثورة الجزائرية، واستولوا على مواقع حسّاسة في السلطة بعد الاستقلال. 

واليوم تترنح الأمّة بين تيارين: أحدهما يدعو للغلو اللاديني متمثلاً بالتحالف العلماني الأجنبي، في مقابل تيار يمارس الغلو الديني، في غياب حركة واعية مسترشدة بالكتاب والسنّة، تضع حداً لاتهام كل ما هو إسلامي بالغلو والتطرّف والإرهاب. 

ووجدتها روسيا الصليبيّة المتحالفة مع الشيعة بعد خلعها عباءة الشيوعيّة فرصة للانتقام من المسلمين، الذين جعلوا من نهر الفولغا نهراً إسلاميّاً، واجتازوا سيبيريا ذات يوم، فقصفت طائراتها ولا تزال الأهداف المدنيّة والتجمّعات السكانيّة بما تملكه من حقد وقسوة، لإخماد جذوة النضال السوري، قبل انفجار البركان الإسلامي في ثلاث عشرة جمهوريّة روسيّة يشكّل المسلمون أكثريّة فيها. (يشكّل المسلمون نحو ربع سكان روسيا الاتحاديّة)

وجاءت العصابات الشيعيّة إلى سوريّة تحت دعوى حماية المراقد المقدّسة، فجرت أعمال إبادة وتهجير، جرى الإعداد له منذ مجزرة حماه في عام 1981، يوم سكت أصحاب القضيّة عن حقّهم، وكان العالم شاهد زور على مجزرة العصر، واسدل الستار على مسرح الجريمة دون حساب أو عقاب.

وتركت أمريكا للتحالف الشيعي الصفوي في العراق الحبل على الغارب، فأفرغ أحقاده التاريخيّة تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، بالشكل الذي رأيناه في الفلوجة، وصار الجميع على قناعة بأنّ مخطّطاً خبيثاً حقوداً (الهلال الشيعي) يجري تنفيذه في المنطقة. 

هذا المخطّط لا يستطيع أن يقف في وجهه سوى حركة إسلاميّة جسورة، ببعديها الدعوي والسياسي، تلك الحركة المنشودة التي شكّل غيابها عن الساحة حالة من الفراغ القاتل في سوريّة والعراق. 

ورغم الفشل الذي حاق بتجربة الإخوان السوريين القصيرة، عندما استجرّوا للفصل بين السياسي والدعوي، وابتدعوا (حزب وعد)، فإن البعض يريد جرّهم إلى تجربة فاشلة أخرى، علّه يجد مقعداً بين تلك المقاعد الثابتة، أو يمتص جزءاً من رحيق تلك الزهرة الفوّاحة. 

وفي تونس أثار نفر من المثقفين الإسلاميين في مقدمتهم الأستاذ الجورشي حالة من العصف الفكري، داخل (حركة النهضة) عندما شكّلوا تيار اليسار الإسلامي (الإسلاميون التقدميون) وقاموا بإجراء عملية مراجعات شاملة تتعلق بإعادة دراسة تاريخ حركة الإخوان خاصة منهج الإمام حسن البنا، والشهيد سيد قطب، حيث وجدوا أن هذا الفكر لا يستطيع أن يستوعب المتغيرات الموجودة في الواقع، وشغلوا بعلاقة النص بالعقل.

ووجدوا من السلطات التونسيّة الترحيب طمعا في شق التيار الإسلامي، أو على الأقل إشغال الإسلاميين عن السياسة بقضايا الثقافة وإعطائها الأولويّة، من خلال (منتدى الجاحظ).

وصار من حق المواطن التونسي الذي منح برنامج (حركة النهضة) وزعيمها الغنوشي ثقته في أوّل انتخابات حرّة بعد الثورة أن يتساءل: هل من حق النهضة التي امتصّت أصوات الإسلاميين أن تتنازل عن برنامجها الإسلامي لصالح الأحزاب العلمانيّة؟ خشية أن تنزلق البلاد التونسيّة فيما انزلقت إليه مصر وسوريّة والعراق.

وفي غياب الحركة الإسلاميّة الجامعة استطاع السادات تسويق مقولة: "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة"، وأن يزور إسرائيل ويعقد الصلح معها برفقة شهود زور من كبار رجال الدين.

واستطاع من جاء بعده نهب المال العام، وتكوين طبقة من الفاسدين، ولم يتورّع عن بيع المنتجات النفطيّة لإسرائيل بأقل من سعر الكلفة. 

ولم يتورّع قادة الانقلاب على شرعيّة مرسي، عن قتل المعتصمين في رابعة في وضح النهار، وزج الآلاف في السجون والمعتقلات، وإحالة أوراق المتهمين بمعارضة شرعيّة الانقلاب للمفتي، والتنازل عن حقوق مصر في نهر النيل، غير عابئين بالجناح السياسي والدعوي للجماعة.

نحن اليوم بحاجةٍ إلى الإسلام كما أنزل (الدين والدولة) أكثر من أيِّ وقت مضى، لأن في الإسلام الحل لكل ما نعانيه من مشاكل سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، وأن الدين الإسلامي هو سرّ وحدة المسلمين ومصدر قوّتهم، مهما تأوّل المتأوّلون، ولووا بأعناق النصوص.

إنّ تفرّق المسلمين، وتشتيت جهودهم بين السياسي والدعوي، وتبديد مواردهم، واختلاف أولويّاتهم، وسكوتهم عن المطالبة بحقوقهم السياسيّة التي كفلتها تعاليم الإسلام كل هذه المدّة، هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضعف وهوان، حتّى استنسر بأرضنا البغاث، واستتيس العنز، وتطاول علينا الأعداء، ومكرت بنا الأقليّات.

وإنّ حركة إسلاميّة قويّة مسترشدة بالكتاب والسنّة تستطيع أن تضع حداً لمعاناتنا، وتضمن الاستقرار لأنظمتنا السياسيّة، وتحقّق ما لم تستطع تحقيقه الأحزاب السياسيّة ذات المرجعيّة الإسلاميّة، ليس في مصر وحدها، ولكن في تركيّا والمغرب أيضاً، وسوريّة المستقبل الواعد، وهذه التجارب ماثلة أمامنا.

"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"

الزيارات: 1842