قبل أن نستجير من الرمضاء بالنار
قابليّتنا للاستبداد والاستعباد، وطاعتنا حكّام الجور، ورضانا بحكم الخصيان وقادة الجند والأوصياء عبر التاريخ، شجّع المتسلّطين علينا والطغاة لقهرنا والاستخفاف بنا.
زوّرت إرادة الشعوب في انتخابات المجالس النيابيّة والتشريعيّة على نطاق واسع ولا تزال تزوّر، وتحوّلت الانتخابات الرئاسيّة إلى استفتاءات للتجديد والتوريث، حتّى أصبحنا أضحوكة هذا الزمان، بسبب المغالاة في النسب الأسطوريّة، والإصرار على هذا النهج، وليس ذلك سرّا.
وبسبب سكوتنا ونفاقنا نعت الناصحون منّا والصالحون بأبشع النعوت وأقبحها، فوصفوا بالخيانة للوطن والعمالة للأجنبي، وصمتنا على جريمة سحق واستئصال كل معارض شريف، بينما كانت شعوب العالم الحر تتنافس على طرح برامجها عبر مؤسّسات مجتمعاتها الحرّة، وتسعى لتقديم الأصلح واختيار القادرين على تنفيذ كل ما يعود على أوطانها بالتقدّم، وتتبادل المقاعد عن طيب خاطر وبكل تواضع.
وكمّمت الأفواه، وصودر الرأي الآخر، وصار للجدران آذان، وأمّمت الصحف وسائر وسائل الإعلام، وخضعت المطبوعات لمقص الرقيب، وتحوّلت منابرها من مدارس لتوعية الجمهور وتثقيفه إلى أبواق دعاية وتأليه للفرد.
وأصاب الركود حركة الثقافة والتأليف والنشر، وتردّت أحوال المطابع، وانتشرت الأميّة في عصر العلم وطغت الثقافة الضحلة والسطحيّة، وكثر الأدعياء والمتنطّعون والراقصون على الجراح، وغاب عن ساحاتنا عمالقة الفكر والأدب الذين كانوا يرتفعون بقاماتهم كالأطواد في سماء الدنيا.
وارتفعت نسبة البطالة والعنوسة والفقر والحرمان والإدمان والتضخّم، وزاد حجم المديونيّة، وارتفعت فاتورة خدمة الدين العام، وابتليت بلادنا بالتصحّر وتقلّص المساحات المزروعة على حساب التوسّع العشوائي للمدن، وانحسر الفرات وهدّد النيل، وتفاقمت أزمة المياه والطاقة، وقلّ الانتاج الزراعي والحيواني، وتحوّلت موائدنا إلى مستهلك شره لنفايات أغذية العالم، واستحكمت أزمة المساكن الصحيّة، بسبب سوء التخطيط وتخلفه، وجمود روح القوانين وتحجرها، ونقص كفاءة العاملين في إدارة الموارد البشريّة والاقتصاديّة، وفساد ذمم رجال لم يحسنوا حمل الأمانة.
وفشت ظاهرة الهجرة الاقتصاديّة بين الشباب، وزاد عدد اللاجئين السياسيّين طلبا للحريّة، والفارّين من القمع إلى العالم الحر، وتفاقمت هجرة العقول والكفاءات إلى أوروبا رغم ارتفاع حدّة الكراهية ضدّ المهاجرين، وسوء معاملة السلطات الحكوميّة لهم.
ولم تحرّر الأراضي المغتصبة في عهد الهزائم والتنازلات، واحتلّت أراض جديدة، وأعيدت أخرى منزوعة السلاح، وانتكست قضايا الأمّة المصيريّة على أيدي الأدعياء، واحتلّت بلاد جديدة، وبني جدار الفصل العنصري بإسمنت عربي، وشيّدت المستعمرات بأيد فلسطينيّة ضالّة، وتوسّعت المستوطنات في الأراضي المحتلّة، وزيد عمق الخندق الشرقي وامتدّ ساتره الترابي، وهوّدت القدس، وهدّد الحرم القدسي الشريف بالاجتياح وهيّئت الأحجار لإقامة الهيكل على أنقاضه.
وزاد عدد السجون والمعتقلات على حساب المدارس والمستشفيات، وتوسّعت مساحة المنافي خارج الوطن، وتفنّنت أنظمة القمع بأساليب التعذيب، وقتل الأحرار في السجون أمام سمع العالم وبصره، وانتزاعت الاعترافات من المتهمين على ذمّة التحقيق بطرق مبتكرة (راجع تقارير انتهاك حقوق الإنسان) حتى صار أشدّ ما يخشاه المعتقل في (غوانتانامو) أن يسلّم إلى دولته للتحقيق معه، وسلّمت ملفّات المعارضة الإسلامية على سعتها إلى أمريكا كنوع من التعاون الأمني، وتعبير عن حسن النوايا.
وهكذا أصبح المواطن الحرّ غريبا في بلده، مطاردا في منفاه، محاصرا بعيون السلطة، محروما من حقّوقه المدنيّة والانسانيّة، متهما بالإرهاب والتطرّف.
وأخيرا أما آن لهذا الشرق المسكين أن تعود إليه ثقته بنفسه، ويستنشق نسيم الحريّة، ويتخلّص من كل عقبة كأداء تقف دون بلوغه أسمى الغايات قبل أن تستجير شعوبه المسحوقة من الرمضاء بالنار.
وطوبى للغرباء
1/4/2005
الزيارات: 1247