ترحيل السوريين القسري دعوة لثورة جديدة

نشر بتاريخ: السبت، 02 حزيران/يونيو 2018 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

كلّما هبّت رياح الشمال وغطّت الثلوج جبال القوقاز، والتفّ الأطفال حول جمر الموقد في المنافي البعيدة، تشخص أعينهم نحو جدتهم وآذانهم صاغية لسماع حديث الذكريات، وما أجمل تلك الأمسيات التي سلبها من قلوبنا نظام التهجير السوري القسري والمتواطئون معه.
أعادتهم بأسلوبها الشيّق إلى الثالث والعشرين من شباط سنة 1944، وجدائل شعرها الأبيض تتدلّى على صدرها، فتنهّدت وشرقت دمعها، وكادت أن تتوقّف عن سرد وقائع المأساة، خشية أن تجرح مشاعر طفولتهم، ثمّ تجلّدت واستعادت صوتها وتحدثت بطلاقة كأنّها تقرأ في كتاب.
بدأت عمليات الترحيل الجماعي إلى سيبيريا في الخامسة صباحاً من ذلك اليوم المشؤوم، قدّر عدد المرحّلين بأمر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بمليون مسلم من ست جنسيات قوقازية، 
استمرّ الترحيل القسري في عربات القطارات عدّة أيّام تحت تهديد السلاح، ومات من الجوع والعطش والبرد أكثر من نصف المرحّلين.


وما هو مصير من اعترض على تنفيذ أمر ستالين؟
جمع المعترضون في معسكر اعتقال أقيم في قرية خايباخ، وأضرمت النار فيهم.  
ومضت الأيام مسرعة، وشبّ الأطفال عن الطوق، وماتت العجوز تحمل معها ذاكرة عصيّة عن النسيان، لكن حديثها بقي حيّاً في ذاكرة الأجيال.
وأعاد التاريخ نفسه، واستدعى بشّار الروس لحمايته من ثورة شعبه، فجاءوه بطائراتهم وصواريخهم وسفنهم الحربيّة، يحملون الدمار والخراب والأحقاد التاريخيّة.
فأغاروا وقصفوا ودمّروا، وأقاموا قواعد لجيشهم الغازي، وبسطوا سيطرتهم على المدن، ونشروا شرطتهم لفرض احتلالهم.
وتحت ذريعة الحرب على الإرهاب ومحاربة التطرّف شرعنوا لوجودهم الدائم في البلاد السوريّة، بحجّة استدعاء النظام لهم، وانتهكوا حقوق الإنسان على نطاق واسع، وحموا منتهكيها من العقاب.
ولم يجد الروس سوى الوصفة العلاجيّة التي جرّبها ستالين في القوقاز لإنقاذ حليفهم من السقوط، ألا وهي التهجير القسري الجماعي للسوريين نحو الشمال، وتفريغ المناطق الثائرة من أصحابها.
وعلى اعتبار أنّ سوريّة لمن يدافع عنها، فهي من حق الروس والإيرانيين وعصابات الشبيحة وحزب الله، لا لأبنائها ومن يحمل جنسيتها.
وكان أحد أعمدة النظام (زهر الدين) قبل اغتياله قد هدّد بمنع عودة الهاربين من جحيم الأسد وبراميله المتفجّرة وغازاته السامّة إلى مدنهم وقراهم، لتمنح سلطة الاغتصاب المحتلّين والمرتزقة أرضاً لم يرووها بالعرق والدماء، وعقاراً لم يرثوه عن آبائهم، ولم تعمّره أيديهم.
وعاثت عصابات الشبيحة فساداً ونهباً في أملاك السوريين الغائبين، فاقتلعت تحت مرأى الشرطة الروسيّة الأبواب الخشبيّة والشبابيك الحديديّة، وحملت مقتنيات البيوت السوريّة الفاخرة من السجاجيد والأثاث والأدوات المنزليّة والكهربائيّة المسروقة إلى أسواق السنّة في القرى العلويّة، على اعتبار أنّها غنائم حرب. 
ولمّا ظنّ الأسد أنّه سطّر نصراً ساحقاً في معركته الشرسة مع شعبه، قام بإصدار القانون رقم 10 القاضي بالاستيلاء على أراضي وعقارات السوريين الغائبين القسريين، لإعادة تنظيمها وتوزيعها على أبناء طائفته وأتباعه في محاولة للتغيير الديموغرافي، مما يعيد إلى الأذهان (قانون أملاك الغائبين) الصادر في 14/3/1950 الذي استندت عليه إسرائيل في مصادرة الكثير من الأراضي العربيّة في فلسطين المحتلّة.
وكان النظام قد استهدف بطائراته "دوائر السجل العقاري" وأحرق "سجلات الدفتر الخاقاني" أو "الطابو" و"دوائر الأحوال المدنيّة" "سجل النفوس"، مفخرة إنجازات العهد العثماني الذي كان حريصاً على حماية أملاك السوريين وعائلاتهم من العبث والتزييف. 
ليوهن عزيمة السوريين التي لا تلين، ويثني إرادتهم الحرّة عن بلوغ الأماني، وقطف ثمرة الحريّة التي ضرّجوها بدمائهم.
وقد نسي هؤلاء الحمقى أنّ المرحّلين حملوا معهم من تربة بلدهم رملاً وعفرا يستنشقونه كالعطر بعد كل صلاة، لأنّ حب السوريين لوطنهم جزء من إيمانهم، وليس ذلك بدعاً من القول، فقد علّمهم نبيّهم أنّ "مَن مات دون ماله فهو شهيدٌ، ومن مات دون دمهِ فهو شهيدٌ، ومن مات دون أرضه فهو شهيدٌ).
وأنّهم سادة المصير، القادرون على الانبثاق من تحت الرماد، وليالي السجون، وأنّهم لن يتخلوا عن وطنهم المضطهد بهذه السهولة.
وسيعود السوريّون من المهاجر البعيدة، ليعيدوا إلى الأرض المغتصبة زهر بساتينها، وظل أغصانها، وشذا فلّها وياسمينها، وسيعود معهم تغريد البلابل والعندليب والحسّون.
وغدا ستحكي الجدات السوريات للأحفاد في أمسيات الشتاء قصّص المعاناة التي رافقت رحلة التهجير القسري السوري إلى الشمال، وجدائل شعرهنّ الأبيض تتدلّى على أكتافهن كأخواتهن الشيشانيّات.
ورحم الله زفر بن الحارث حيث يقول:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى... وتبقى حزازات النفوس كما هيا

وطوبى للغرباء                                                                رئيس التحرير
1/6/2018                                                                  محمد علي شاهين

الزيارات: 1227