انتكاس اللغة التصويريّة في الصحافة الغربيّة

نشر بتاريخ: الأربعاء، 01 آذار/مارس 2006 كتب بواسطة: بقلم: محمد علي شاهين

تتالت صحف الغرب على نشر رسوم ساخرة مسيئة إلى الرسول الكريم كانت قد نشرتها الصحيفة الدانماركيّة (جيلاندزبوستن) وأعادت نشرها الصحيفة النروجيّة (مغازينات) متذرّعة بحريّة التعبير التي لا تنهض في عصر العولمة إلا بالإساءة إلى مشاعر المسلمين، ناسفة الحوار بين الحضارات والأديان والثقافات، وإذا أضفنا إليها ما يكتب وينشر عن الإسلام والمسلمين نصل إلى نتيجة بلغها (السفير هوفمان) دون عناء حيث يقول: إنّ خوف الغرب ومرارته من الشيوعيّة كانا نسبيّا معتدلين ولفترة قصيرة بالمقارنة بقرون معاداة الإسلام ؛ وإنّك إذا سبرت غور النفس الأوروبيّة ولو بخدش سطحي صغير لوجدت تحت الطبقة اللامعة الرقيقة عداء للإسلام عقدة فيينا التي يمكن استدعاؤها في أي وقت، وهذا ما حدث في أوروبا خلال العشرين سنة الماضية. 

وحتى لا يظن ذوي الثقافة الضحلة أنّ هذه الحرب الإعلاميّة التي يشنّها الغرب على الإسلام والمسلمين هي الحرب الأولى، كان لزاما علينا التذكير ببعض الأسلحة التي استخدمت في الماضي للنيل من الإسلام وتشويه صورة المسلمين، وتهييج الجموع عليه، وفي مقدمتها الفنون لما للفن من تأثير على مشاعر الناس وتوجّهاتهم.

وكان (مونتغومري واط) قد أدرك أن أوروبا الوسيطية أفرزت ظاهرتين لا يمكن لأي باحث جاد أن يتعامل معهما بلا مبالاة، تتمثل الأولى في الصورة الشائهة تماما التي ولدتها أوروبا عن الإسلام، وتبرز الثانية في التجذر الهائل الذي تمكنت الايديولوجيا الصليبية من ترسيخه في قلوب وعقول الأوروبيين عن الذات وعن الآخر.

وإذا كان الهدف المعلن للصليبيين يتجلى في الدعوة إلى استعادة الأماكن المقدسة بالطرق العسكرية، فإنهم من أجل ذلك، استثمروا كل الوسائل الكفيلة بتكوين متخيل جمعي يعلي من شأن الذات ويقدم الآخر في أشكال انتقاصية، شيطانية، تمنح لكل المنخرطين في الحركة العامة حوافز التعبئة والإيمان بعدوانيته وشراسته، لدرجة يصل فيها المحارب إلى خلق شعور لديه بأنه حين يحارب ضد المسلمين، فإنه يحارب الظلام قصد إشاعة الأنوار.

استخدام الصورة في الحروب الصليبيّة:

وصف شهاب الدين المقدسي، أحد مؤرّخي الحروب الصليبيّة العرب، المركيز صاحب صور بأنّه كان من أعظم قادة الفرنج حيلة وأشدّهم بأسا، وأنّه الأصل في تهييج الجموع وذلك أنه صوّر القدس في ورقة عظيمة وصور فيها صورة القيامة التي يحجون إليها ويعظمون شأنها وفيها قبر المسيح الذي دفن فيه بعد صلبه بزعمهم وذلك القبر هو أصل حجهم وهو الذي يعتقدون نزول النور عليه في كل سنة في عيد من أعيادهم فصور القبر وصوّر عليه فرسا عليه فارس مسلم راكب وقد وطىء قبر المسيح (عليه السلام) وقد بال الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع والقسوس يحملونها ورؤوسهم مكشفة وعليهم المسوح وينادون بالويل والثبور، وللصور عمل في قلوبهم فإنها أصل دينهم فهاج بذلك خلائق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى وكان من جملتهم ملك الألمان وجنوده فلقيهم المركيز لكونه أصلا في استدعائهم إلى هذه الواقعة فلما اتصل به قوى قلبه وبصره بالطرق وسلك به الساحل خوفا من أنه إذا أتى على بلاد حلب وحماه نازلهم المسلمون من كل جانب ومع ذلك لم يسلموا من شن الغارات عليهم ؛ ويضيف المقدسي قائلا: ولقد وقفت على بعض كتب الخبيرين بالحرب وقد حدّد فارسهم وراجلهم بخمسة آلاف بعد أن كانوا قد خرجوا على ما ذكر بمئتي ألف فانظر إلى صنيع الله مع أعدائه. (1)

لوحات كهنوتية :

وفي مدينة بيزا رسم (أندره أركانيا) سنة 1335 م لوحة (الجحيم) جعل فيها مكانا يعذب فيه من هم أشد من المتكبّرين، وهم عند الرسام أركانيا: الرسول (ص) والدجال وابن رشد.

وفي مدينة بيزا أيضا احتفظت كنيسة (القديسة كاترينا) بلوحة للفنان (فرنسسكو تريني) كان قد رسمها عام 1940 م نجد فيها القديس (توما الإكويني) جالسا على كرسيه في مهابة وأستاذية، بينما تتجه إلى عقله أشعة نورانية مصدرها الرب الممثل بمركز الضوء في أعلى اللوحة، بيده كتاب (طيماوس) و(أرسطو) الممسك بيده كتاب (الخلقيات) ؛ ويظهر (أرسطو) و(إفلاطون) كل منهما في أحد جانبي اللوحة، وشعاع نورهما يلتقي بالنور الإلهي عند القديس (توما) الذي يمسك بيده مجلدا من الكتاب المقدس، يفتحه على عبارة (فم الجاهل مهلكة له، وشفتاه شرك لنعشه) ؛ وعلى ركبتيه كتبه الكثيرة، تشع نورا على علماء الكنيسة المجتمعين حوله ؛ أما الجاهل الذي فمه مهلكة له، وشفتاه شرك لنعشه، فهو في اللوحة ابن رشد، الذي يظهر في الصورة منعزلا منقلبا على قدمي القديس (توما) في صورة الهائج الساخط المشاق لله والعاصي لتعاليمه، والذي لا يكاد ينهض على مرفقيه من شدة العناء، وإلى جواره شرحه الأكبر على (أرسطو) مفتوحا، وملقى على الأرض، ومثقوبا بشعاع من نور القديس (توما الإكويني).

 وفي مدينة فلورنسا لوحة معلقة في كنيسة (سانتا ماريا توفلا) نجد ابن رشد يقدم قربانا يضحى به في سبيل القديس (توما الإكويني).

 وفي (بوفلماكو) لوحة لا زالت معلقة في كنيسة (سان بترون) رسم فيها الرسول (ص) وإلى جانبه ابن رشد موصوفا بالزنديق. (2)

سر العداء بين المسيحية والرشدية:

 أثرت آراء ابن رشد تأثيرا عميقا، من خلال الترجمة، في الفلسفة اليهودية، وقدمه المترجمون من تلاميذه إلى العالم المسيحي اللاتيني.

وقد تأثر العلماء المسيحيون عميقا بابن رشد كتأثر العلماء اليهود، وقد أدت شروح ابن رشد إلى ردود فعل قوية بين المسلمين في الأندلس، وبين التلموديين، ثم في العالم المسيحي.

 واعتبر رجال الدين المسيحي ابن رشد الذي حرص على التوفيق بين الفلسفة والدين، وأقبل على الكلام والفلسفة حتى صار يضرب به المثل فيهما، و(أرسطوطاليس) شرا واحدا، وكان ابن رشد قد أيّد نظرية (أرسطو) في خلود العالم، وحرم البابا في عام 1231 قراءة مؤلفاتهما ما لم تكن مهذبة غاية التهذيب.

وفي عام 1277 شجب أسقف باريس 219 غلطة في مذهب ابن رشد و(أرسطوطاليس) ؛ وبهذا عدّ ابن رشد ملحدا كبيرا، وأعظم أعداء الدين المسيحي. (3)

 

الدعاية المعادية للإسلام في منحوتات الكنائس:

لقد ألان الله للمسلمين الحجر كما ألان لداود عليه السلام الحديد، فنقشوا على صفحته البيضاء الآيات الكريمة، والجمل المفيدة، وصنعوا منه المنابر والمقاصير والمقرنصات، وزخرفوا المحاريب ونقشوا كلمتي التوحيد والبسملة تحت القباب والقناديل، فأنطقوا الحجر بحب الله والرسول الإنسان. 

بينما كان الغربيون كما وصفهم (دوزي) في ظلام الجهالة، لا يرون النور إلا من سم الخياط يعكفون على تجسيد الكراهية بعد أن أعياهم القلم وخذلتهم الحجّة والبرهان.

وجاء في استطلاع (لانرت ليمان) عن معرض الفنان الشيلي المولد (كلاوديو لانغه) في متحف الفنون الإسلاميّة في برلين، حيث قام (لانغه) باقتفاء آثار الدعاية المعادية للإسلام في منحوتات كنائس العصور الوسطى في أوروبا، وخرج بنتيجة تناقض ما يروّجه تاريخ الفنون المتداول من تقليل الهوّة التي تفصل بين الأعداء مفادها: أن عودة النحت إلى الحياة في القرن العاشر الميلادي التي تصنف عادة بالرومنطيقية، كانت حسب رأيه في الحقيقة دعاية تصويرية ذات طابع إعلامي ثوري غايتها الدعوة إلى الحرب المقدسة ضد الإسلام. 

والقطع الرئيسية من بين هذه الأعمال هي في رأي (لانغه) تلك التجسيدات المعادية للإسلام التي لم تحظ إلى حد الآن بما ينبغي من الانتباه والتي غايتها الترويج لفكرة إمكان التغلب على الحضارة الإسلامية الراقية، والتعبير عن النخوة الانتصارية للمسيحية.

وبدعم من مؤسسة (ريمتسما) للثقافة والعلوم قام (لانغه) بزيارة كنائس من العصر الوسيط في كامل أوروبا، وأجرى فحصا دقيقا على كل واجهاتها ورسومها ونقوشها الداخلية بحثا عن كل الصور المجسدة المعادية للإسلام، وكان لسعيه حصيلة هامة، ويا لهول ما رأى: هنا أزواج تتجامع في وضعية الصلاة الإسلامية، وهناك رجال برؤوس معممة ينتفون لحيهم أو يلوحون بذكورهم المختونة الضخمة، نساء محجبات يعرضن فروجهن لأعين المتفرجين، حمير تعزف على آلات موسيقية عربية، وجوه فظيعة بأشداق مفتوحة وأسنان طويلة حادة يحكم أصحابها أيديهم على آذانهم صورة تجسد سخرية واضحة من مؤذني الجوامع تلك كانت حصيلة بحوث لانغه. 

وكوصمة مميزة تظهر شخصيات الصور العارية كلها محيية بحركة من اليد المحكمة على الصدر. 

إنها، حسب (لانغه) صورة عن عدو المسيحية ككائن فاسد منحرف، منذور للهزيمة، مجسدة ومنعكسة هنا في الإسلام.

مواطن القطع الأثرية المكتشفة:

أغلب هذه التصويرات اكتشفها دكتور علم الأديان والفنان المستقل (لانغه) على أرض شبه الجزيرة الإيبرية، فقد كانت إسبانيا الكاثوليكية وحتى القرن الخامس عشر منشغلة باسترداد سلطتها على أرض الأندلس، وكان ذلك بالتالي مبررا لأعمال تجسيد المعاداة للإسلام والاستحواذ على القطع الأثرية ذات الطابع العربي واستعمالها في بناء الكنائس كغنائم حرب (وليس كدليل إعجاب كما يعلن لانغه)، وقد اكتشف لانغه أيضا صورا لنمور وسباع تستمني في فرنسا، وقردة تضرب على الطبل في كولونيا، ومسلمين مقيدين يرفعون سقف كنيسة في براغ، وفرسان يمتطون ظهور أتراك في فورتسبورغ، ورجل بعمامة تمزقه السباع في السويد.

صورة لعدو خارجي:

كانت تلك المنحوتات حسب رأي (لانغه) وسائل تحسيس وتجنيد جماهيرية لشعوب في أغلبيتها لا تعرف القراءة والكتابة. 

والمسؤول عن ذلك في رأيه هي الكنيسة التي كانت تبحث عن صورة لعدو خارجي مشترك وموحد بعد أن فشلت محاولات إرساء سلام داخلي في أوروبا.

كانت الكنيسة تسعى عن طريق هذا العمل التوحيدي إلى تأسيس سلطتها وإلى الإعداد للحروب الصليبية عبر هذه الحملة الدعائية الحجرية. 

يقول (لانغه): وإذا العالم الغربي تبعا لذلك يؤسس ذاته على قاعدة الحقد على الإسلام.

ومن بين الأمثلة التي تعبر عن الحرب التي كانت تشنها الكنيسة ضد التأثيرات الثقافية الإسلامية داخل أوروبا يذكر (لانغه) ما تعرضه لوحة تصويرية عن الجنة في غيرونا. 

وقد استطاع بمساعدة علماء النباتات أن يكتشف أن الصورة المجسدة للشجرة التي تناول منها آدم وحواء ثمرة الخطيئة الأولى والتي كانت تتدلى من بين أغصانها الحية إنما ذات الطابع الروحاني والتي تستعمل عادة لغايات طبية هي في الواقع شجرة التفاح كمادة أساسية لاستحضار الأدوية، وكان العرب هم الذين جلبوها إلى أوروبا. 

لقد كان النحاتون يدركون جيدا ما الذي كانوا يفعلونه يقول (لانغه): إنه متأكد تماما أن تلك اللغة التصويرية كانت في متناول فهم الناس في ذلك الزمن.(4) 

فهل تبحث أوروبا عن عدو مشترك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لترسي سلاما داخليا بين حكوماتها ؟ 

أم أنها تعيد تأسيس سلطتها لأنها تعد لحرب صليبية قادمة عبر حملتها الدعائية المغرضة ؟

وهل انتكست اللغة التصويرية في الصحافة الغربية على مقدار فهم الناس إلى هذا الدرك، حتى بلغت من الجرأة على مقام الرسول (ص) ما بلغت تحت دعوى حرية التعبير.

 وطوبى للغرباء 

1/3/2006 

 * * *

المراجع:

1 الروضتين في أخبار الدولتين ج 4 ص 15 2 

2 نظرة جديدة إلى التراث ص 45 د.محمد عمارة.

3 الفكر العربي والعالم الغربي ص 18 56 يوجين أ. مايرز.

4 الإسلام في الكاتدرائيات: صور أعداء المسيح في المنحوتات المسيحية، معرض صور لكلاوديو لانغه في متحف الفنون الإسلامية (متحف برغاما) ببرلين، ترجمة : علي مصباح

 

الزيارات: 1282