المقالات الافتتاحية
نصر من الله وفتح قريب
رويتم بدمكم الطهور أرض الإسراء والمعراج يا جند حماس، وأحرزتم فضيلة الجهاد ببذل الأنفس من الأموال والأنفس، وأعدتم إلى النفوس المؤمنة الأمل بالنصر والتحرير في عصر الهزائم والانتكاسات.
أحبكم الله ومنحكم شعبكم ثقته لأنّه كان لكم اليد البيضاء في الهمّة والتضحية والإيثار، وبذل الوسع والاجتهاد، وكان منكم الشهداء والصالحون.
أرأيتم كيف كانت وجوههم الصفراء تقطر سمّا وهم يستقبلون انتصاركم، أعماهم الحقد والكراهية لأنّهم لا يعرفون فضلكم ولا يملكون الجرأة فيعترفوا بأخطائهم السياسيّة التي ارتكبوها بحق أقدس قضيّة.
وتحداكم الخاسرون بدفع رواتب الموظّفين، وقد تركوا لكم خزائن خاوية، وديونا متراكمة، وكأنّ فلسطين لا تملك مقوّمات الدولة التي ناضل المجاهدون من أجل قيامها، ولا تملك الموارد الكافية التي ضاعت هدرا وفسادا.
هدّدوكم بقطع المساعدات وأموال الدعم، إذا لم تتنازلوا عن ثوابتكم، وترضخوا لضغوطهم وقد نسوا أنّ الأوطان لا تهدى ولا تباع، وأنّكم موعودون بالرزق والبركة ما استقمتم على الشريعة وتمسكتم بها.
إن صبرتم على قالة السوء قليلا استمتعتم بالأفضل طويلا، فلا تضيّعوا جهودكم فيما لا طائل وراءه، وتولوا قيادة سفينة الخير والبناء بكل ما تملكون من ثقة وجدارة.
اعلموا أنّكم في هذه البلاد المحتلّة أضيع من الأيتام على مآدب اللئام، فلا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، فإنّ للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، آلا وأنّ للناكل الهارب الهوان والجفوة.
إن كنتم تعلمون أنّكم على حق، وتدعون إلى حق، وتدافعون عن حق، فاصبروا على ما استشهد عليه أصحابكم البنا والقسام وياسين والرنتيسي وعيّاش وإخوانهم الأبرار.
قد نالكم يا فرسان حماس بهذا النصر خير من الله فاقرنوه بشكر، فإنّ الشكر على الخير زيادة في النعمة.
يرمقكم جيل من الشهداء في عليين كانوا مشاعل من نور أضاءوا مسيرة التغيير والإصلاح التي رفعتم شعارها، وآخرون أحياء منحوكم الثقة والتأييد وحسن الظن فلا تخيّبوا ظنّهم.
وعليكم بالصدق فلا رأي لكذوب، وإيّاكم وتغييب الحقيقة والبرهان عن أمتكم فتغييب الحجّة في وقتها خذلان عظيم.
جدّدوا لله خالص نيّاتكم، وأروه الشكر قولا وفعلا ما يزكي به سعيكم، وقولوا الحق ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تبيعوا آخرتكم بدنياكم فتخسرونها والله جميعا.
مفاتيح الخير أنتم يا جند حماس، مغاليق للشر، وما كنتم من المذمومين.
يشدّ أزركم المؤمنون بحق شعبكم في الحياة الحرّة على أرض الحشد والرباط والقابضون على الجمر في الشتات، والمهاجرون والغرباء، وإلى مزيد من الانتصارات.
(الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون). صدق الله العظيم.
وطوبى للغرباء
1/2/2006
برلمان العرب الذي نريد
عاش الشارع العربي حالة إقصاء ويأس، وانسداد سياسي واجتماعي، في ظل الأزمة الديمقراطيّة المتفاقمة التي زادتها الأزمة الاقتصاديّة احتقانا.
وبدا جليّا مدى تمسّك الأنظمة المعمّرة بالسلطة وممانعتها للاصلاح والتغيير والتحوّل الديمقراطي السلمي، وعجزها التام عن تحقيق أيّة مكاسب في مجال حقوق الإنسان وإغلاق ملفات المفقودين والمعتقلين والقبور الجماعيّة.
وأقصي الآخر وشوّهت صورته، وزوّرت إرادته، وقمع وغيّب، واتهم بالخيانة والعمالة باسم الديمقراطيّة.
فلا عجب أن ينفضّ الناس عن هذه الكلمة ويزهدوا فيها، ويمقتوها بسبب ما أصابها من تشويه وتذييف وتفريغ من محتواها الحقيقي.
والأعجب من ذلك أن تمتد يد التزييف في أعقاب العرس الديمقراطي الذي وصفت به الانتخابات الأخيرة إلى كلمة الوحدة، فتخرج علينا الجامعة العربيّة ببرلمانها المؤقّت، لتقنعنا بأنّها لا زالت حيّة، وأنّها قادرة على توحيد أمّة العرب، وحماية أمنها ومصالحها، وخاصّة بعد فضيحة احتلال العراق.
برلمان غير مزوّر ولكنّه معيّن، محدّد بخمس سنوات وربّما بسبع لأنّه لا قيمة للوقت لدى المخطّطين لهذا البرلمان الوحدوي العتيد، وكأنّ التاريخ سينتظرنا حتى نستكمل خطوات هذا المشروع الخطير.
ألا تكفينا البرلمانات التي تلعب بها الأنظمة لنضيف إليها برلمانا على شاكلتها يدار من العواصم العربيّة عن بعد.
ألا تكفينا البرلمانات الصوريّة التي لا تملك القدرة على الرقابة، ولا على التشريع، ولا المحاسبة والنقد الموضوعي، وليس لقراراتها صفة الإلزام.
يريدون أن يقنعونا بأنّهم سائرون على درب الوحدة، وأنّ أوروبا الموحّدة ليست بأفضل منا، وأنّ لنا برلمانا عربيا دونه البرلمان الأوروبي، ولكن هيهات.
غدا سيحمل ممثلو كل نظام عربي معهم تناقضات الأنظمة التي يمثّلونها ومشاكلها وعقدها ونزاعاتها الحدوديّة، ومشاكل تقاسم المياه بينها، وستزداد المشاكل تعقيدا، لأنّهم لايملكون مفاتيح الحل.
وسترون أيّها السادة أنّ هذا البرلمان لن يتمخّض إلا عن تكريس للتجزئة، والاعتراف بالأمر الواقع، وإصدار قرارات لمكافحة الإرهاب، وإصدار توصيات لحماية الأنظمة من دعاة الوحدة الحقيقيّة.
إنّ البرلمان الذي يحظى باحترام الشعوب العربيّة هو البرلمان المعبّر عن ضمير الأمّة ووجدانها، الممثل لإرادتها الحرّة، لا البرلمان المنقطع عن الشعوب، المحدود الاختصاصات بإصدار الآراء والتوصيات الذي تفتقت عنه عبقريّة الأمين العام، بعد وعوده بالإصلاح، وحدّد معاييره وزراء الخارجيّة.
البرلمان الذي نتطلّع إليه هو البرلمان الشعبي المنتخب انتخابا حرا، القادر على تعزيز الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، ووقف سرقة قوت الشعب واستنزاف ثرواته في الوطن العربي.
البرلمان الذي يملك حق التعيين والخلع.
وطوبى للغرباء
1/1/2006
الشرق وحمى انفلونزا الانتخابات
يسجنون أبناء شعبهم بالآلاف، ويعرّضوهم لأعتى أنواع التعذيب ثم يطلقونهم بالعشرات في كل مناسبة وطنيّة أو قوميّة اخترعوها لتتحدّث الصحف الصفراء عن قلبهم الرحيم وأياديهم البيضاء، وتنهال عليهم كلمات الثناء.
يخطفون الدبلوماسيين الأجانب والسوّاح في ظلام المدن المضطربة، فيمنون على الدنيا بمساعيهم الحميدة لفك أسر هؤلاء المساكين، ويتلقون البرقيات والتهاني على أعلى المستويات.
يرفعون شعار الحريّة ولكنّهم يحرصون على منح شعوبهم الحريّة بالقطارة، لأنّهم يخشون عليها من الانبهار بنور الحريّة، وقد فات شعوب الشرق أنّ الحريّة تؤخذ ولا تعطى.
يدّعون كلّما انتقدوا في الغرب أنّهم بديل الفوضى، وأنّ الشعوب الشرقيّة لا تفهم معنى الحريّة، ولا تقاد إلاّ بالاستبداد، ولا تروّض إلا بالعصا، وأنّها تزداد عشقا لحاكميها كلّما تعسّفوا واستبدّوا.
ولا يسأمون أن يدّعوا بأنّ دولهم جنّة حقوق الإنسان في دنيا المعذّبين، ومهد منظمات المجتمع المدني، ومرتع التعديّة الحزبيّة، والبرلمانات المنتخبة ديمقراطيّا، وأن قوى المعارضة تتمتّع بهامش من الحريّات تحسدها عليه شعوب أوروبا.
وكل ما تراه من أحزاب حاكمة صنعتها سطوة الانقلاب العسكري، أو سلطة الانتداب الأجنبي، ومن أحزاب صغيرة صديقة منشقّة عن الأحزاب الوطنيّة صنعت على أعين الحكومات، لا تتمتّع بالشرعيّة ولا بالمصداقيّة ولا تتصف بالجرأة ولا تجرؤ على نقد الممارسات الخاطئة وفضح الفساد المستشري، وآخرون مردوا على النفاق يدّعون الاستقلال وهم تبع وأذناب، ما هي إلا مسرحيّة تحركها يد الدكتاتوريّة الخرقاء.
وإذا قرّر أحد الأنظمة إجراء انتخابات برلمانيّة حدّد شروط اللعبة الانتخابيّة، وصاغها على هواه، واختار توقيتها، ورتّب قوائمها بشكل يضمن له السيطرة على الهيئة التشريعيّة التي تمرّر ما يحلو له من قوانين وصفقات.
وبلغ من جرأة بعض الأنظمة أن تلغي نتائج الانتخاب إذا لم تضمن لها السيطرة على المجالس التشريعيّة كما حدث في الجزائر، حتى ولو بلغت كلفة مثل هذا القرار أرواح مئات الألوف من أبناء الشعب موافقين ومعارضين.
وإذا ما جرت انتخابات تشريعيّة فجداول الناخبين غير منضبطة تحتوي على أخطاء كثيرة تمكّن الآلاف ممن لا يحق لهم التصويت كالذين لا يقيمون في الدائرة الانتخابية، أو من الأموات والمسافرين من الإدلاء بأصواتهم.
وابتكروا لتمزيق لحمة المجتمع تقسيم المرشّحين إلى فئات وعمّال وفلاحين وأقليّات ومنحوا كوتات خاصّة على هواهم، وقسّموا الدوائر الانتخابيّة على أسس تفتقد العدالة والموضوعيّة، وأعطوا لأنفسهم الحق بتعيين عدد من النوّاب في المجلس التشريعي ليضمنوا رجحان حزب الحكومة على ما سواه.
أمّا الجهات الموكول إليها تطبيق النظام وحفظه في الدوائر الانتخابيّة فقد وقفت عاجزة عن انتهاك القانون، ووضع حد لظاهرة الرشوى العلنيّة و(الورقة الدوّارة) ولم تحتجّ على استخدام سيّارات القطاع العام في نقل الناخبين إلى مراكز الاقتراع.
واستخدمت أجهزة الإعلام التي يدفع المواطن من جيبه نفقاتها للتأثير على الناخبين والدعاية لمرشحي القائمة الحكوميّة، وكأنّها ملك لحزب الدولة، وجرى الضغط على الناخبين وتهديدهم في القرى والأرياف.
ووسط أعمال العنف اليوميّة (البلطجيّة) وتحت فوهات البنادق والمسدسات، روّعت الحكومات الاستبداديّة أحزاب المعارضة قبل التصويت، وألقي القبض على عدد من رموز المعارضة عشيّة الانتخابات كما حدث في أذربيجان وغيرها، وداهمت قوى الأمن مراكز الأحزاب وغابت العدالة عن عمليّة التصويت، وادّعى المراقبون وقوع تلاعب انتخابي مفضوح.
وبدّلت الصناديق أثناء نقلها، وجرى فرز الصناديق في غياب مندوبي المرشّحين، والقضاة المستقلين، ولم تعلن نتائج الانتخابات إلاّ في الوقت الذي تراه الجهة المنحازة للسلطة مناسبا.
هذه الحالة المزرية أصبحت مكشوفة، تنطبق على معظم دول المنطقة، ولا يخجل ممارسوها من تكريسها كحالة دائمة ميؤوس منها، والاعتراف بأنّها انتخابات مضلّلة أو مزيّفة.
حتى ولو انتقدتها منظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، ووصفتها بالمهزلة، وأكّدت مخالفتها لما التزمت به الحكومات من عدالة و شفافيّة.
صورة قاتمة مرسومة بلون الدم رسمتها يد القهر والاستبداد في بلدان الشرق تغنيك عما يجري من تزييف للحقيقة، ودجل سياسي مكشوف، ونهب للثروة والمال العام، واحتكار للسلطة.
ففي الشرق انتخابات تنتقل جرثومة تزويرها من بلد إلى آخر كالوباء، وصدامات مع قوى الأمن بعد كلّ انتخابات واحتجاجات ترتفع أصواتها وترفع أعلامها البنفسجيّة تارة وراياتها البرتقاليّة تارة أخرى، ثم تختفي مثل انفلونزا الطيور.
وطوبى للغرباء
1/12/2005
كيف لا نحب المعذّب
أعرف شابا جامعيّا من أسرة كريمة قضى شطرا من أحلى سنوات عمره في غيابة السجن على ذمّة التحقيق، اضطهده زبانية السجن ونكّلوا به أبشع تنكيل، وأذاقوه مرّ العذاب، ولم يتركوا كلمة نابية أو عبارة ساقطة إلاّ وقذفوها في وجهه، وتجرّأ كبيرهم على البصق في لحيته، وسبّ دينه، فلمّا بلغه قرار الإفراج عنه وهو النبأ الذي يطير له لبّ السجين بدت على وجهه علامات الأسى والحزن.
واستغرب كل من حوله وهم يقدّمون له التهاني والقبلات متسائلين: ومن يحزن على فراق هذا العالم المظلم الأسود الحقود؟
والغريب في الأمر أنّه لمّا أزفت ساعة الخلاص أخذ يجهش بالبكاء وهو يودّع السجّانين ويقبلهم ويدعو لهم بالتوفيق وطول العمر، ويطلب منهم أن يسامحوه.
والأغرب أن يتحوّل الناس الكرام إلى مرضى بحبّ المعذّب، وعشق زبانية التعذيب، وكأنّ عالم الأحرار قد تحوّل إلى سجن كبير.
وكيف لا نحب المعذّب وقد ذقنا طعم العصا ولسع السياط على أيدي زبانيته، وتجرّعنا الأذى من كأسه الطهور كأنّه شراب مختلف ألوانه.
كيف لا نحب المعذّب وقد عشنا الأزمات في زمن السلم ما لم تعرفه شعوب الأرض في زمن الحرب.
كيف لا نحبّه وقد وقفنا في طوابير الخبز والغاز والإسمنت، وعشنا أزمة المواصلات، وأزمة السكن، وأزمة الماء والكهرباء، ودفعنا الرشوة علنا، وكنّا شهود زور على أزمة الضمير، والثقة، وتكافؤ الفرص.
كيف لا نحبّه وقد أصبحنا أمّة متخلّفة طمس حبّه إبداعها، وإنجازها، وحرمت نعمة الحوار الحر، فتحجّرت عقولها، وجفّت أقلامها، ونضبت حقول معرفتها وعرفانها.
كيف لا نحبّه وقد ضاقت علينا أوطاننا بما رحبت، وضجّ العالم من ظاهرة هجرتنا السريّة السياسيّة والاقتصاديّة.
كيف لا نحب المعذّب وقد طويت صفحات التاريخ على يديه، فابتدأ التاريخ من حيث ولد العبقري، وتوقّفت عقارب الساعة، أمام الزعيم الملهم الذي لا يجود الزمان بمثله أبد الآبدين.
لم نوفّر فرصة إلا وانتهزناها لتحيته والهتاف باسمه من الأعماق، وعلّقنا صورته الجميلة فوق رؤوسنا، لأنّنا نحبّه ونعشقه، ونصبنا التماثيل له في ساحاتنا الكبرى التي كان الأحرار يعلّقون فيها على الخشبة، لأنّ الشنق والرمي بالرصاص والقتل اليوم يجري في الزنزانات والسراديب لأنّه المعذّب الرحيم.
اتهمنا بأنّنا أمّة أدمنت على الظاهرة الانقلابيّة، وما علموا أنّنا أمّة مبتلاة (بساديين) يتلذّذون بتعذيبنا، وينتشون بحمرة دمائنا، و(نرجسيين) يعشقون أنفسهم، ويهيمون بها حبا ويتغزّلون، ومصابين بحبّ المعذّب إلى درجة العشق.
حسبوا أنّنا صنعنا طاغوتنا صناعة وطنيّة، وما علموا أن من تقذفه الانقلابات إلى سدّة الحكم ليس بحاجة إلى قاعدة شعبيّة أو حزبيّة يستند إليها، أو ماض ناصع يشفع له، لأنّ ترويض الناس بالعصا هو الأسلوب المفضّل لحب المعذّب.
أمّا محطّة الإرسال التي يسيطر عليها بدبابته قبل بزوغ الفجر فتتكفّل بغسيل دماغ المغفّلين أمثالنا، لأنّنا أمّة تحب الشعر، وتعشق الكلام المعثول، وتطرب للمارشات العسكريّة، وتنام على سرير الوعود كالأطفال، وكأنّ طبخة الحصى ستنضج غدا.
ومع هذا كلّه لا بدّ من الاعتراف أنّنا نحبّ عيون المعذّب.
ولم نزل نخشى على المعذّب من لفحة البرد، ومن شعاع القمر، لأنّه منذ اليوم الأوّل الذي استحوذ علينا كالمتاع يدّعي الورع والحرص على المال العام، فإذا مات بكينا عليه، وحملنا تابوته على أكفّنا، وكنّا كالمتاع من نصيب أحد ورثته، وكان النفط والملايين من نصيب العائلة.
أمّا من أراد الشفاء من حبّ المعذّب فلا يحتاج لنصائح بقدر حاجته لمن يصغي إليه باحترام، وهو لا يحتاج لطبيب لكنّه اليوم وقد استفحل المرض بحاجة إلى حكيم، لأنّه أدمن على حبّ المعذّب.
ألا فليستعد معذبنا الذي أحببناه وبايعناه لوليمة الذئب الذي سيلتهمه في البريّة وحيدا، لأنّ أحدا لن يصدقه هذه المرّة، لأن المرضى بحبّ المعذّب قد تحوّلوا إلى مرضى بكره للمعذّب.
وطوبى للغرباء
1/11/2005
الاعتذار للمسلمين عن الحروب الصليبيّة أم عن احتلال العراق !
اهتزّ وجدان العالم بعد احتلال العراق، وارتعد في أعقاب تفجيرات مدريد ولندن، وشعر رؤساء الديانة المسيحيّة والإسلاميّة بأهميّة الوفاق والتصالح والحوار، وأدرك العقلاء والصالحون أنّه آن الأوان لإزالة سوء الفهم بين المسلمين والمسيحيين.
فكانت مبادرة الكنيسة الأنكليكانيّة الخيّرة للاعتذار للمسلمين عن احتلال العراق وما لحق بشعبه من قتل وتشريد، وما لحق بأرضه من تخريب وتدمير.
لأن الحكومة البريطانيّة خاضت مع أمريكا حربا لا مبرّر لها من شرع أو قانون، ولا يملك رئيس وزرائها (بلير) من مسوّغاتها سوى الادعاء بأنّه خلّص العالم من نظام سيّء، أمّا أسلحة الدمار الشامل فدعوى لا أساس لها، وكل ما يقال بأنّه كان ضحيّة لتقارير صحفيّة مضلّلة.
ليس بين المسلمين والنصارى بجميع كنائسهم في العالم الإسلامي، بما فيها الكنيسة الأنكليكانيّة، مشكلة أو ثأر تاريخي، فلقد احتضن العالم الإسلامي النصارى الهاربين من جحيم الصراع المذهبي في الغرب خلال القرون الوسطى، وكان الملجأ الوحيد لليهود الناجين من بطش محاكم التفتيش في اسبانيا، وفي ظل الإسلام توسّع النصارى في بناء الكنائس، والبيع، ودور العبادة وانتشرت الحياة النسكيّة في ديار المسلمين، ونعموا بحريّة التفكير الديني، حتى أنّهم كانوا يحتكمون للخليفة في مسائلهم الدينيّة، ويتمتّعون بالحماية من بعضهم البعض، وكان صدر دمشق يتسع لعقد المناقشات الدينيّة بين المذاهب المسيحيّة، أو بين رجال الدين النصارى وعلماء المسلمين، وسمحت الشريعة للمسلم بالزواج من الكتابيّة، دون تغيير دينها، وبسبب هذه السياسة الحكيمة تجاه أهل الأديان وجدنا معظم نصارى الشام يقفون إلى جانب العرب المسلمين ضد الغزو الصليبي (1126 1272)م وبسبب طبيعة العلاقات بين المسلمين والنصارى وتسامحهم استعان الصليبيّون بالأطباء المسلمين لعلاج جرحاهم، وتمتّع النصارى واليهود بالحريّة الدينيّة والأمان في المدن السوريّة.
ولم يكن كل النصارى في الماضي مجمعون على الحروب الصليبيّة، ففي عصر النهضة نزع المتنوّرون عن الحروب الصليبيّة مجدها وبهاءها، ورأوا فيها وليدا مسخا فظيعا للقرون الوسطى السخيفة والجاهلة، ووسم (روسو) و(فولتير) و(روبرتسون) بالعار أفعال الصليبيين، وندّدوا بوحشيتهم واعتبروا حروبهم نتيجة لتعكّر الذهن بنشوة الدين، وسخروا سخرا مرا من تاريخها، كذلك نعت (هرذر) الحملات الصليبيّة بالحملات الطائشة، وجادل وعارض الثمار الإيجابيّة التي كان ينسبها المؤلّفون الكاثوليك آنذاك إليها، وكان يعتبر أنّ الجنون الصليبي (كلّف أوروبا من الأموال ومن الأرواح البشريّة ما لا عدّ له).*
حتى فرسان الحروب الصليبيّة لم يكونوا مجمعين على تبريرها، وقد عبّر الشاعر المغني الجوّال الفرنسي (ريمون جوردان) بخارق البلاغة عن الموقف السلبي المتعاظم في أوساط الفرسان من الحملات الصليبيّة، فقال في إحدى قصائده: إنّه يفضّل ليلة مع حبيبته على جميع أطايب الجنّة التي يوعد بها المشترك في حملة صليبيّة.
الوثيقة الصادرة عن المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني عام 1964، برأت اليهود من دم المسيح كبراءة الذئب من دم يعقوب، حيث جاء فيها: (ولئن كان ذوو السلطة والأتباع من اليهود عملوا على قتل المسيح إلا أن ما اقترف إبان الآلام والصلب لا يمكن أن ننسبه في غير تمييز إلى جميع اليهود الذين عاشوا آنذاك ولا إلى اليهود المعاصرين لنا) وليس في هذه الوثيقة ما يزعج المسلمين لأنّ الله برأهم في محكم كتابه قبل أربعة عشر قرنا بقوله: (وما قتلوه ولا صلبوه ولكن شبه لهم به).
واعتذرت الكنيسة للأفارقة عن الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، واعتذر البابا يوحنا بولس الثاني لليهود عن (الهولوكوست) فليعتذر من يعتذر وليضع (الماريوكا) على رأسه.
ولكن أحدا من آباء الكنيسة لم يعتذر للمسلمين عن الحروب الصليبيّة في الماضي، ولم يعتذروا لهم عن تدمير الإمبراطوريّة الإسلاميّة في الهند، ولا عن تمزيق الخلافة العثمانيّة الإسلاميّة في مطلع القرن الماضي، ولا عن محاولات الامتلاك الدائم للشمال الأفريقي، ولم يعتذروا للمسلمين عن تدمير المشروع الإسلامي القومي، ولا عن دورهم في تقسيم العالم العربي، ولم يعتذروا للمسلمين عن وعد (بلفور) وتمكين إسرائيل بعد الانسحاب البريطاني، ولا عن الويلات والفواجع التي تمخّضت عن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولا حجم المأساة والكارثة التي ألحقوها بشعب لا يزال يقاوم ويتحدى الفناء.
لم يعتذروا للمسلمين عن تمكين ودعم الأنظمة الفاشيّة والانقلابات العسكريّة في العالم الإسلامي والتعامل معها على أنّها أنظمة سويّة، وسكتوا عن جرائم انتهاكات حقوق الإنسان، ونهبوا ثروات الشعوب كلّ هذه السنين الطوال بالتواطؤ، أما الحديث عن القبور الجماعيّة التي كانوا شهود زور عليها في البوسنة والهرسك وكوسوفو وتدمر فممنوع ومسكوت عنه.
إنّ إزالة سوء الفهم بين المسلمين والنصارى، وامتصاص حدّة التوتّر والاحتقان بينهما، أمر في غاية الأهميّة، خاصّة وأن الاحتلال لم يكن باسم الدين ولم يباركه الرب.
وإنّ الشعوب المسلمة تتطلّع لإنصافها لا إلى الاعتذار إليها بمعسول الكلام، لأن من يجب الاعتذار إليهم قتلوا ظلما في حروب طاحنة، وفتن ماحقة، وسجون عاتية، وأنّ ملايين المشرّدين البائسين الجائعين سكان الخيام والكهوف في الشتات، والقابعين في المعتقلات يتطلّعون إلى شريعة عيسى في الحب وشريعة محمد في العدالة، لأنّهما السبيل الوحيد للخلاص.
وطوبى للغرباء
1/10/2005